لا أعتقد أن مستقبل اليمن يتقرّر على طاولة الحوار الوطني الجاري منذ أكثر من ستة أشهر، فهناك لا يخاطب المتحدّثون - بعضهم على وجه القطع - الجالسين معهم على الكراسي؛ وإنما يرفعون أصواتهم لإسماع الواضعين أصابعهم على أزندة البنادق خلف المتاريس وعلى ظهور سيارات الموت وفوق الدرّاجات البخارية المتعجلة قنص الضحايا.
ربما تنخفض الأصوات في الغرف المغلقة؛ حيث المساومات والتسويات فيستأنف الحوار بعد انقطاع، لكن مهما تطاول الوقت فإن التوافقات ممكنة وقد تكون مبهرة؛ إلا أن مستقبل اليمن لن يتقرّر هناك على الطاولة المفتوحة أو في الغرف المغلقة؛ لأن المعضلات الجوهرية ليست محل نقاش وبحث، ثم إن حلولها في أيدي أطراف لا يبدو أنها مستعدة أو راغبة.
إن شكل الدولة وبنيانها وغيرهما من المواضيع قابلة للاتفاق من الوجهة النظرية، ولكن المتحاورين ليسوا كلهم على إرادة واحدة لبناء الدولة بأي شكل كانت، وقبل أن يبدأ الحوار قيل إن التخلّي عن العنف شرط المشاركة فيه، ثم جرى التغاضي والسكوت، بينما يجري الحوار في موفنبيك؛ يدور القتال في أكثر من محافظة بين الحوثيين والسلفيين وبينهم وبين ميليشيات أولاد الأحمر والقادة في التجمع اليمني للإصلاح، ويتم اقتحام المعسكرات وتنفيذ اغتيالات لضباط وجنود الجيش والشرطة.
إن الأطراف الثلاثة المتحاربة «الحوثيين والسلفيين، وجماعة الإصلاح والأحمر» ممثلة كلها في لجنة الحوار، وهي تخادع هنا بالكلام وتتحدّى هناك بالسلاح، ولا وجاهة للتصور أن «القاعدة» غائبة عن ساحة الحوار، فهي موجودة فيه من خلال الجماعة الأم مثلما أنها حاضرة عبرها في مفاصل السلطة ومراكزها العليا؛ فشيوخ الإخوان المسلمين «الإصلاح بالمسمى اليمني» هم الذين جندوا الشباب وأرسلوهم إلى بيشاور ومنها إلى أفغانستان لشن الحرب الأمريكية ضد الاتحاد السوفيتي الحليف القوي للعرب في صراعهم مع إسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة، ولئن خرج من بين أولئك الشباب الفصيل الذي عُرف بتنظيم القاعدة فإن الحبل السري لم ينقطع، وإذا حدث لم يتوقف الإرضاع بالتصورات والآراء المكفرة للغير والداعية لقتلهم. وتبرهن الأحداث الدامية في مصر وسوريا والعراق على وحدة العائلة وقوة روابطها، خلافاً لما كان يُسوَّق عن أن الإخوان هم الفصيل المعتدل في الحركة الإسلامية، وتبين أنهم جميعاً من قماشة واحدة.
والمعنى أن الجامع الفكري المشترك يكفي أن يوحد الجميع في المعركة حين تصبح الحرب لازمة وحاسمة. وأما قبل ذلك فلا بأس من أن يسبق طلائع الفدائيين لشن هجمات مباغتة ترهق الخصم وتستطلع ساحته إلى أن تحين الحرب، على أن تمارس القوة الرئيسية التمويه والخداع لتوصيل رسالة بأنها لا تسعى إلى العدوان ولا تستعد للقتال في الوقت الذي تبذل طاقتها للحشد والتعبئة والتدريب ورفع الجاهزية في كل لحظة. وإذا ما اضطرت في بعض الأوقات إلى القيام بمناوشات فإنها لا تظهر قوتها كاملة ولا جبروتها كله.
إن الحالة كذلك هنا في اليمن وإن كانت تجارب البلدان الأخرى كشفت العقيدة القتالية للجماعة وتكتيكاتها. من هنا، وإذا ما جاز استعارة مثال الجيوش النظامية فإننا قبالة قوة مسلحة واحدة بأفرع متعددة، ويصبح من غير معنى الحديث عن فوارق بين التنظيمات الإسلامية.
منذ يومين نشرت إحدى الصحف ملخص تقرير أمني رفع للرئيس عبدربه منصور هادي؛ تضمن معلومات زودت بها أجهزة المخابرات المصرية الأجهزة اليمنية عن مخطط للاستيلاء على الحكم. ويمكن للقارئ المدقق أن يرجح دقة المعلومات بل ويطمئن إلى صحتها؛ لأن السياق لا ينطوي على ثغرات توحي بالفبركة. والمهم أن المصدر هي المخابرات المصرية بما تتمتع به من كفاءة عالية وبخبرتها الهائلة في التعامل مع التنظيمات الإسلامية منذ أربعينيات القرن الماضي، وذلك مكنها من إحداث اختراقات مهمة إلى درجة القدرة المذهلة على رصد كافة اجتماعات قيادة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، علاوة على تسجيل اللقاءات التي جمعت ممثلين للتنظيم مع مندوبين للاستخبارات الأمريكية «سي آي ايه» والمخابرات الخارجية البريطانية «ام ون سكس» والمخابرات الفرنسية وغيرها. كذلك تتوافر المخابرات المصرية على معلومات مهمة من حصيلة التحقيقات مع المعتقلين من الإخوان والجماعات الجهادية وفيهم عناصر يمنية قُبض عليها في سيناء، وذكر التقرير أن جوازات سفر أصحابها لا تحمل تأشيرات خروج من اليمن أو تأشيرات دخول إلى مصر، حيث يتم نقلهم إلى تركيا ومنها إلى إسرائيل ثم إلى سيناء عبر قطاع غزة. لكن الخطير بالنسبة لليمن هو مخططهم من أجل الحكم. وكانت اليمن في تصورهم المقصد الأول لإقامة دولتهم، وهم يستندون في ذلك إلى حديث مشكوك فيه، وبالبناء عليه كان مجيء الإخواني الجزائري الفضيل الورتلاني ومساهمته في محاولة 1948 للإطاحة بالإمام يحيى. وفي الثمانينيات شكلت اليمن موئلاً لعناصر الإخوان السوريين الهاربين من نظام حافظ الأسد بعد أحداث حماة وللمصريين من أعضاء الجماعة الإسلامية التي تعرضت للمطاردة بعد اغتيال السادات.
الكارثة أن القوة الجبارة للإخون ومن معهم قد تمكنهم من القبض على السلطة، لكن الحوثيين أمامهم قوة عسكرية أخرى متأهبة، وهم يعتقدون أنهم أحق بالحكم، وبحسب زعيمهم يوم الغدير أنه لا سبيل لهزيمة أمريكا وإسرائيل إلا بأيلولة السلطة إلى نسل علي، مع أن سجل هذا النسل مليء بالأعمال الفاضحة في خدمة الصهيونية والقوى الامبريالية منذ الثورة العربية التي وظفها شريف مكة لصالح بريطانيا. ذلك رغم خرافة النقاء العرقي، ورغم أن الأولاد لا يشبهون آباءهم دائماً، والأمر أبعد إذا تعلق بالأحفاد بعد مئات السنين، فقد قال الله لنبيه نوح حين تشفع لابنه «إنه ليس من أهلك»، وكذلك كان أبو لهب أشد عداوة للنبي حتى استحق سورة من القرآن تهجوه وتوبخه. على أننا لسنا في وارد شن حرب تسحق أمريكا وإسرائيل بقدر ما تنتصب أمامنا مهمة لملمة اليمن وتجنيبها من مصير فاجع يتهددها إذا اشتعلت الحرب بين هؤلاء وأولئك. ولدى هؤلاء وأولئك هوس مشحون بتشويه الدين وجعله على شاكلتهم، ثم إنهم مستبسلون بتدمير البلاد في سبيل أطماع خاصة وأغراض رخيصة.
لذلك لا أعتقد أن مستقبل اليمن يتقرر الآن على طاولة الحوار أو في الغرف الخلفية التي تجري فيها المساومات بالتغلب على العقبات التي تنتصر أمام المتحاورين، ويبدو الآتي كارثياً إذا لم تستيقظ الضمائر وإذا لم يقف المتحاورون أولاً أمام هذه القوى التي تضرم نيران الحرب وتهدد بمآل فاجع لليمن واليمنيين. ويصبح على اليمنيين جميعاً أن يقفوا في وجه العاصفة، وإن كانت المهمة طويلة وشاقة ميدانها العلم والثقافة وليس السلاح بالتأكيد.