“من سوء تدبيري، بُرّي «قمحي» أكل شعيري” بهذا المثل الشعبي اليمني لا سواه نختصر نتيجة أحاديثنا التي تطول حول فقرنا وتصنيف أنفسنا بدولة فقيرة محدودة الموارد لا تستطيع الاستغناء أو التعفُّف عن الدعم والمساعدات - وإن كـانت مشروطة - في الوقت الذي بمـقدورنا أن نتخلّص - وإن بنسبة كبيرة - من ذلك إذا ما أحسنا التدبير وأقدمنا على ما يمنع أكل البُر للشعير كما في المثل المشار إليه.
أتذكّر ونحن في مهرجان القاهرة الدولي للإذاعة والتلفزيون أن أحد الزملاء من الإعلاميين العرب المُحكّمين في المهرجان - قبل أن يكتشف من احتفظ باسمه إلى حين أني من الخطرين الذين يشكّلون خطورة على النظام الجديد حتى بما كتبه من أعمال غنائية وطنية وعاطفية - أتذكّر أنه قال خلال حديثنا عن اليمن: كيف تقولون إنكم دولة فقيرة محدودة الموارد بعد مرور نصف قرن على دخول التعليم الحديث إلى اليمن، ووجود دولة على رأس قرابة خمسة وعشرين مليون من دافعي الرسوم المختلفة، إضافة إلى الوافدين والسياح، ضف إلى ذلك أن لديكم ملايين المغتربين في كثير من الدول..؟!.
هكذا قال وعلى وجهه علامة تعجُّب واضحة، شاركتُه إياها وحمدت الله أنه لم يشر إلى بقية ما لدينا من موارد كالعائدات النفطية والغازية، وما لدينا من ثروة سمكية وزراعية وتنوُّع سياحي وغيرها من مصادر الدخل والإيراد؛ وإلاّ كنت أكثر إحراجاً، ولشاهد على وجهي العشرات من علامات العجب.
وهنا يجدر الحديث عن الموضوع إيَّاه، ونبدأ بالسؤال: لماذا نحن دولة فقيرة تشكو محدودية الموارد أو الاختلال المزعج بين مصادر الموارد وقنوات الإنفاق، لماذا نشكو الفقر ولدينا حوالى خمسة وعشرين مليون مواطنً يدفعون الرسوم المختلفة ابتداءً بحفلة الختان - بعد الولادة - ومروراً برسوم التعليم وشراء الملابس وتعبئة رصيد الهاتف ورخصة البناء - إن فتح الله عليه - إلخ.... وانتهاء بمراسم تأبينه بعد الدفن لملاقاة ربه..؟!.
لماذا ولدينا مختلف عوامل الجذب للسياحة الثقافية والدينية والرياضية كسياحات الصحراء وتسلُّق الجبال والغوص، حيث أجمل شواطئ وشُعب مرجانية، لماذا ولدينا من الثروة السمكية من حيث الجودة والوفرة وطول الشواطئ ما يجعلنا نعتمد عليها قبل الاعتماد على الثروات الطبيعية الأخرى، لماذا ولدينا من بشائر النفط والغاز ما يعود علينا بالمليارات من العملة الأجنبية، ويوفّر للدولة مصدر دخل محلي جيد، لماذا ولدينا من الصادرات الزراعية ما تطالعنا التقارير بأرقامها المشجّعة وما يدعو إلى إعادة النظر في زراعة البن والأعناب وتصديرها وإقامة الصناعات القائمة عليها، لماذا نشكو محدودية الموارد ومنافذنا البرية والجوية تستقبل ملايين ممن نسمّيهم «الزائرين الخليجيين» في الإحصائيات التي تبادر الجهات المعنية إلى التباهي بها حتى عبر رسائل الهاتف القصيرة..؟!.
وهكذا نستمر في التساؤل لماذا، ولماذا، ولماذا نشكو فقر الدولة وشحة الموارد، إلى أن نختتم الحديث بإعادة الأسباب إلى سوء التدبير و«أكل البُر للشعير» أو الترحُّم على من أطلق المثل القائل: “من سوء تدبيري؛ بُرّي أكل شعيري” والدعوة إلى الوقفة الجادة والتوجُّه العام والإجراءات الصارمة للتوصُّل إلى ما يحقّق التعامل المسؤول مع الموارد والنفقات - وإن بدأنا بشعار ضبط الموارد وترشيد الإنفاق - بما يحقّق الالتزام للمجتمع والأجيال القادمة، ويمنحنا قدراً من التعفُّف عن السؤال باسم الدعم الدولي والإقليمي الذي نبرّر الإلحاح في طلبه أنه العامل المساعد على تحقيق الأمن والاستقرار ومحاربة الفقر الذي يوصف أن جده كافر.
إن من يعرف عن اليمن ومواردها؛ لا ينكر علينا الفقر بقدر ما يستغرب درجة الفقر التي نظهر بها ولدينا ما يمنحنا قدراً من الاعتماد على النفس - وإن في مجال الكهرباء والخدمات - التي يدفع المواطن رسومها، فمن المُعيب والمُعيب جداً - على سبيل المثال - أن نشاهد المواطن الراغب في بناء سكن يأويه يدفع كل الرسوم المفروضة لمنحه رخصة البناء بما في ذلك رسوم رفع المخلّفات «التي لا تعاد» ثم يجد نفسه يسكن حيّاً سكنياً لا توجد فيه مجارٍ للصرف الصحي، ولا مشروع مياه، ولا مدرسة حكومية، ولا قسم شرطة، ولننظر مثلاً إلى أرقى أحياء العاصمة المسمّى «حي بيت بوس» فقد ذهبت إلى قسم شرطته قبل أيام لتعميد معاملة خاصة؛ فوجدته عبارة عن حوش في منحدر ويتكون من غرفتين من الطوب السيئة البناء الشبيهة بغرف المعتصمين في عواصم «الربيع العربي»..!!.
أختتم ما سبق بالتمنّي ألاّ أكون قد أغضبت أحداً حتى «لا يأكل الشِعر الشعَير» كما في المثل العربي.
شيء من الشعر:
مَنْ يُسائل مَنْ..؟!
مَنْ يُحاكمُ من..؟!
من سيَجْرُؤ يوماً ويُدْلي
بتعريفهِ للفساد..؟!
من سَيُقْدِمُ يَوْماً وَيُخبِرُناَ
عن تنامِي أسرابِ تلك الجراد
التي لم تَدعْ أخضرَ
وأتت كل واد..؟!