لست موقناً إن الزعيم السوفيتي نيكيتا خوروتشوف هو الذي صاغ مصطلح التعايش السلمي، لكنه أوّل من أعلن كمبدأ ينبغي أن يسود بين الأمم بتجنيب الانسانية مخاطر الحروب والدمار.
حصل هذا أثناء الحرب الباردة التي تخلّلتها أزمات هدّدت بانزلاق القوتين الأعظم (الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة) إلى مواجهة عسكرية مباشرة. وكان الاتحاد السوفيتي هو الأكثر إداركاً والأشد حساسية لكارثة حرب كونية جديدة بعد أن تعرّض لأهوالها في جولتين سابقتين دفع في الثانية وحدها أكثر من عشرين مليون شهيد من إجمالي الضحايا البالغين 27 مليوناً، إضافة إلى عشرات الملايين من الجرحى والمشوّهين فوق الدمار الهائل في البُنى والمؤسسات الوطنية.
خلافاً للسوفييت لم تتعرّض أراضي الولايات المتحدة للغزو ولم تسقط على براريها قنبلة واحدة على مثال سيل القنابل التي أمطر بها الألمان بريطانيا.
وكانت الولايات المتحدة هي التي افتتحت الحرب الباردة في اللحظات الأخيرة للحرب العالمية الثانية بتجربة حيّة للسلاح النووي لهيروشيما وناجازاكي في اليابان ثم بسلسلة الانقلابات العسكرية والحروب الاقليمية على امتداد القارات الثلاث. وكان الانقلاب على حكومة مصدّق في إيران الذي دبّرته وكالة المخابرات المركزية رسالة واضحة بعزم أمريكا على محاصرة الاتحاد السوفيتي وإفشال مسعاه إلى حلم الوصول إلى مياه الخليج الدافئة فوق ما يعنيه الاقتراب من بحور النفط.
لم تكن هزيمة الفاشية هي النتيجة الوحيدة المحققة من الحرب الثانية ولم يكن احتلال الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مقدمة المسرح العالمي هو المتغير الحاسم في صياغة العصر الجديد والعلاقات الدولية، فقد خرج من رحمها عنصر جديد تغذّى بالمُثل النبيلة لتصدي الشعوب للنازي واستلهم روح المقاومة الفرنسية واليوغسلافية وشعوب الاتحاد السوفيتي على وجه الخصوص، وبزغ من هذا الميلاد فجر حركات التحرر الوطني. وعلى الرغم من أن ضرباتها استهدفت مواقع جيوش الدول الاستعمارية القديمة فإن الولايات المتحدة - وقد طمعت بإرثها - تولّت الدور الأكبر في مهمة قمع حركات التحرير في محاولة احتواء الأنظمة الوطنية أو اسقاطها اذا تعذر الكيد. وبحكم توجهاته العقائدية ومسئولياته الأخلاقية وجد الاتحاد السوفيتي نفسه يدعم حركات التحرّر والحكومات التقدمية في العالم الثالث، فقامت الحروب بالوكالة. لكنها دائماً كانت تنشأ بفعل التحريض الأمريكي للحلفاء بينما يضطر السوفييت إلى دعم المعرضين للعدوان. ويقدم الصراع العربي - الاسرائيلي مثالاً ناصعاً للتشجيع الأمريكي على العدوان والمناصرة السوفيتية لردّه.
لكن هذا كان بُعداً واحداً لحروب متعددة شملت التجسّس والدعاية الهدامة والحرب النفسية والاقتصادية والدبلوماسية وغيرها من أشكال الحروب التي ارتفعت من الأرض إلى الفضاء.
في هذا المناخ الضاج وضع خروتشوف مبدأ التعايش السلمي بين الأمم ثم شاع المصطلح وانتشر في الوثائق الدبلوماسية وفي اللغة المتداولة في العلاقات الدولية وأدبيات السياسة الخارجية.
المثير الآن هو إدخال المصطلح في الكتابات التي تتناول الشئون الداخلية في اليمن. وقد لا يكون مثار اهتمام وروده في مقال أو تحليل سياسي إذ يُفهم منه ان كاتبه زلّ في هفوة. إنما الخطورة ان تتضمنه وثيقة شبه رسمية.
إن التعايش بين الأحزاب والجماعات العرقية والدينية أمر مفهوم ومطلوب فمعناه في النهاية القبول بالآخر والاعتراف، ما يعني أن عدمه هو التجاهل وعدم الاستعداد للتعاون والعمل المشترك وأما الحديث عن تعايش سلمي فإنه يحمل مدلول الحرب عند غيابه. وهذا الأمر الخطر ورد الوثيقة المعدة من قبل اللجنة الرئاسية المكلفة بحل مشكلة الحرب القائمة في دماج. ولقد كان الظن ان تبذل اللجنة مساعي هدفها النهائي دمج المجتمع في صعدة وليس فرزه إلى كيانين قابلين للتعايش أو جاهزين للاقتتال.
وأحسب ان اللجنة لن تنجح في إنهاء القتال وإن تمكنت من ايقافه لبعض الوقت والسبب الأول ان رئيسها ينتمي إلى إحدى الجماعتين المتقاتلتين بل هو أحد قادة الحرب.
ترتدي الحرب بزّات دينية مذهبية وهي في الواقع حرب سياسية يخوضها متنازعون على النفوذ والمصالح الاقتصادية بعناصر غريرة تشكّل حطبها ووقودها. ومن ثم فالمتاح الوحيد بأسلوب المعالجة الراهن هو التهدئة، ذلك إن موازين القوى العسكرية تحدد الشروط التي تقبل بها الأطراف للتخلي عن القتال ولكن أصل المشكلة سوف يدفع بها إلى الإعداد لحروب قادمة.
ولكي يكون العمل جاداً لإنهاء المشكلة من أصلها يجب ان تتوجه المعالجة إلى المستفيدين منها. وذلك يعيد إلى التسوية التي تمت بموجب المبادرة الخليجية بما يوجب البناء فوقها دون الالتزام الحرفي بنصوصها المراوغة والقابلة للتأويلات. ويترتب عليه أن يغادر المشهد السياسي جميع الرموز التي شكلت وجوه النظام القديم عندما تحالفت إلى حين ثم اشتبكت في صراع على المصالح حتى وقعت التظاهرات التي تطورت إلى ثورة شعبية اعتلى موجتها البعض وبقي الآخرون في الموقع المقابل وهم الآن على الجانبين يخوضون صراعاً بالشعب وضد الشعب.
لقد خرج رئيس النظام من الواجهة واحتفظ بحقه في أن يدير أدواته داخل النظام والذين رافقوه بالأمس وخرجوا عليه اليوم ما انفكوا في نفس المواقع وبعضهم ارتفع فوقها وأضاف إليها.
إن المعالجة بعد ذلك لن تتم بقيام الدولة بدور الحكم، ومن الضروري أن تعمل من الآن على تأكيد مفهوم احتكارها للعنف، ومؤدى ذلك ان تكلف القوات المسلحة بقمع المتحاربين ونزع أسلحتهم. ولا يجب الخوف من نتائج الحروب السابقة مع الحوثيين لأن القتال فيها دار بين عصابتين إحداهما خارج منظومة الحكم، والأخرى داخله واعتقد ان الخطوة الأولى هي الاستيلاء على الترسانة الرجعية في الضاحية الشمالية لإبعاد صاحبها تماماً ونهائياً، لأن ذلك سوف يتيح للدولة تعزيز قوتها لفرض السيطرة على السلاح واحتكاره.
ما يثير الاندهاش كذلك هو الجدل حول بقاء مدرسة دار الحديث في أيدي السلفيين أو مغادرتهم منها وكذلك توزيع المساجد بين المتقاتلين، والواجب إغلاق كافة المدارس الدينية باعتبارها مصانع لإنتاج التطرف، فوجود أجانب يدرسون في دماج من العلامات الواضحة على ان المدرسة تمارس وضيفة أبعد من التعليم الديني لأن الراغبين في هذا التعليم سوف يذهبون إلى الأزهر في مصر أو الزيتونة في تونس، إذ لا شيء يجذبهم إلى هنا سوى أن هناك سراديب تحت البحار يقودهم فيها سعاة وأدلة. وكذلك يلزم إخضاع جميع المساجد تحت إدارة وإشراف وزارة الأوقاف، لكن المهم قبل هذا هو تخليص البلاد من تجّار الحروب ومن غيره، فلا قيمة للحديث عن تعايش سلمياً كان أو محروساً بسناكي البنادق.