مضت سنوات ودمدم البهلول على حاله لا يتغير، وبدأت الحارة تنتشي بالطفولة الجديدة المرحة .. عشرات الأطفال كانوا يولدون كمتوالية طبيعية صاعدة، ينمون ويترعرعون في أرجاء الحارة البحرية المتاخمة لأكوام الرمال الممتدة على مرابع موصولة بغابة تلقائية من أشجار ونباتات متنوعة. كانت الحارة نموذجاً فريداً لمجتمعات انقرضت، فالحياة اليومية تبدأ بأصوات الطيور وتحليقات العصافير، ويمتد النهار ملوناً بأجنحة الفراشات التي كانت تُناجز مشقة الانتقال من ميدان أخضر لآخر، وعند المغيب تصطف النوارس البحرية في أسراب منتظمة وأشكال هندسية بديعة، وهي تغادر إلى المجهول، وبين يوم وآخر كانت تمر قوافل الأغنام والأبقار المعدة للتصدير، وهي باتجاهها نحو المرفأ الوحيد في المدينة. لم تكن الجلبة موصولة بالسيارات أو الطائرات، بل بأشياء الطبيعة الأولى، حيث تتقاطع أصوات الديكة مع نهيق الحمير وصهيل الخيول، وتنبري الحدأة الصيادة في انقضاضاتها الرشيقة مع صوت المؤذن قبيل الصلوات الخمس، وفي يوم من أيام الأسبوع كان جرس الكنيسة الايطالية يصل بوضوح إلى قلب الحارة، وعند الغروب يتعمّد باعة اللحوم الإعلان عن عروضهم الخاصة بالاعتماد على أصوات السكاكين،كان البائع العارض يضرب السكاكين ببعضها بعضاً، فتتجوَّل الأصوات الحادة في باحات المنازل، ويتحرك الرجال صوب الوليمة الرخيصة، عائدين بكميات من اللحوم الطازجة.
كان دمدم غائباً عن تلك الأحوال، منصرفاً إلى عوالمه الخاصة، تلك التي لم تكن معلومة إلا من قبل سيدة الصمت المديد والفرح الصاعق، تلك السيدة التي تصمت تسعين يوماً، وتتحدث تسعين يوماً.. كانت الوحيدة العليمة بأسرار دمدم وحيواته الخاصة، يزورها في أيام صمتها المديد وهي جالسة عند عتبة المنزل لا تُحدِّث أحداً، ولا ترد على سائل. كان صمتها يزلزل كل ثوابت الحارة ونواميسها، لأن أحداً لم يكن يعرف السبب وراء هذا الصمت الذي يمتد تسعين يوماً فقط، ولقد قالوا إن دمدم هو الوحيد الذي يعرف سر ذلك الصمت الدهري العجيب، كما يعرف لماذا تتحول سيدة الصمت المديد بعد ذلك إلى أجمل متحدثة مُفوهة، وأكثر المتأنقات حيوية في حارة الأسلاف الغامضة.
Omaraziz105@gmail.com