يحيى عبدالوهاب الديلمي، طفل في العاشرة، وشقيقه عبدالوهاب (ثمانِ سنوات)، خُرم أجلهما بعبوة ناسفة ظهيرة يوم الـ14 من يناير الجاري في مدينة ذمار لتبكي الطفولة شهيدين من أحباب الله؟!
وعندما نتساءل: على يد من أو من قاتل الأطفال هذا؟! فإن من الطبيعي ألاّ تخرج جريمة كهذه عن دائرة من خاطبتهم الصحافية الهولندية يوديت سبيجل بقولها: «أنتم مجرمون»ومن خاطبتنا -كيمنيين- السيدة الجنوب أفريقية يولندى كوركي بأن لا نشعر بالعار لما يقومون به..
هاتان السيدتان أحبتا اليمن فذاقتا مرارة واحدة من المآسي التي يعاني منها اليمانيون، هي مرارة جريمة الخطف والاعتداء على الحريات.. ومن المؤكد أنهما -بعد أن تم الإفراج عنهما- لن تعودا إلى اليمن كغيرهما من الأجانب الذين خطفوا وسُلبت حرياتهم -وإن لأيام- فما بالنا بشهور طويلة، لو لم يكن إلاّ أن الإحساس ببرودة فوهات البنادق في أعناقهم -لحظات اختطافهم- لن تفارقهم، بل سيتزايد الإحساس بذلك كلما تذكروا اليمن وحضارته وأناساً أحبوهم.
يروى أن أحد الملوك استقدم معلماً لولديه، وقال له: أريدك أن تعتني بهما فستجد فيهما ما يسرك، فابني فلان بحرٌ في علمه، أما ابني فلان فَبَرٌ في معارفه.. ولم تمر أيام حتى اكتشف المعلم خيبة واستهتار التلميذين، فطلب من الملك إعفاءه من هذه المهمة.. فسأله الملك عن السبب فأجابه: لقد ظهر الفساد في البر والبحر يا مولاي.
تذكرت هذه الحكاية -وشر البلية ما يضحك- عند سماعي للخبر الصاعقة بمقتل الطفلين ليس لأنهما من أبناء عمومتي وحسب، بل ولهول الجريمة وبشاعتها.. فقبل أيام من الجريمة كنت أهاتف صديقي إسماعيل سلامه إلى ذمار، بحديث ذكريات ممزوجة بما يحدث لليمن، وقلت له: اليوم كنت في مقيل جمعني ببعض الأصدقاء في صنعاء، نستعرض ماذا يحدث من عنف ومشاكل أمنية في صنعاء وتعز والمكلا والشحر وحجة وإب وحوث وغيرها من المدن.. وقلت لهم إن ذمار أكثر المدن أمناً وسكينة قياساً بما يحدث في المدن الأخرى، إنها فعلاً مدينة العلم والحلم والموروث الحضاري الحميري.. فأجابني مازحاً :لا تقل ذلك مرة ثانية حتى لا تصيبنا عين.
يبدو أن انفلات تلك النفوس من عقالات كوابحها الدينية والأخلاقية والقيمية الإجتماعية والقبلية، قد جعل جرائم العنف في أبشع صورها تشمل البر والبحر معاً.
وأي جريمة أبشع من أن يُقتل طفلان بريئان لم يكملا العقد الأول من العُمر، وبقنبلة يدوية أو عبوة ناسفة أُلقِي بها إلى باب المنزل، حتى وإن كان المستهدف بها والدهما أو خالهما القاضي الذي نجا من محاولة اغتيال سابقة أو عملية إرعاب ممن تمرد حتى على القضاء وشرع الله..
رحم الله الشهيدين، ونعود إلى السيدتين المذكورتين، فهذه السيدة الهولندية سبيجل التي عادت إلى بلدها بعد نصف عام من الاختطاف مع زوجها، تبعث برسالة إلى خاطفيها، ليس بغرض توبيخهم، ولكن لتبين لهم مخاطر ما يقومون به على بلدهم وما يلحقون به من أضرار، حيث جاء في رسالتها ما نصه «أنتم مجرمون، ليس فقط بسبب ما ألحقتموه بنا من أذى فحسب، بل بسبب ما تفعلوه ببلادكم أيضاً.. إن حفنة كأمثالكم تفسد البلاد على الآخرين.. عليكم أن تخجلوا من اختطاف الناس».
إنها تطلب منهم أن يكفّوا عن إلحاق الأضرار ببلدهم، وألاّ تتسبب حفنة -من المجرمين- في إفساد اليمن على بقية أهله وساكنيه.
أما السيدة الجنوب أفريقية يولندى كوركي التي أفرج عنها الخاطفون وأبقوا على زوجها «في ضيافتهم» فقد بعثت إليهم برسالة تناشدهم الإفراج عن زوجها ومراعاة حالته الصحية المعتلة، وخاطبت فيها أبناء اليمن بقولها «أيها اليمانيون.. لا تشعروا بالعار لما قام به الخاطفون.. أنتم أناس رائعون وأنا أحبكم».
ولهاتين السيدتين نقول: الاختطاف من الجرائم الجسيمة والبشعة في كل الشرائع والقوانين، وكم أنت رائعة يا يوديت وأنت تنبهين من يقدمون على ذلك إلى ما يلحقونه من أذى بالضحايا وباليمن وأهله، وكم أنت عظيمة يا يولندى وانت تبدين حبك لأهل اليمن من وصفتِهم بالرائعين وتطلبين منهم ألاّ يشعروا بالعار من تصرفات مرتكبي جرائم الاختطاف.
أما الضمير -اليمني- العام فيقول: كيف لا نخجل مما يفعله الخاطفون.. والخطف في شريعتنا جريمة جسيمة تندرج في إطار «الحرابة» التي يعاقب مرتكبوها بالإعدام والصلب أو النفي من الأرض.
كيف لا نخجل ونشعر بالعار من خطف امرأةٍ ومتطوع لخدمتنا ومحب لنا وأن تصل جرأة من يقدمون على تلك الجرائم، بعد تجردهم من كل وازع وضمير إلى خطف الأطفال والنساء من أبناء وطنهم بدافع الحصول على المال، أو الإيذاء أو الإرعاب، إننا لا نشعر بالعار فقط، بل نتمرغ في الخزي من كل ممارسة إجرامية تفسد على اليمنيين حياتهم وأمنهم، وتسيء إلى سمعتهم بكل تصرف إجرامي بشع، الخطف إحداها.
نشعر بالخجل والعار من أعمال الاغتيالات، والقتل الجماعي بالمتفجرات والأحزمة الناسفة، وعنف التطرف المذهبي التكفيري الذي حصد أرواح المئات إن لم نقل الألوف ومازال.
نشعر بالخجل أمام الله ورسوله، والخزي أمام العالم بأسره من كل صوت يعلو لإشعال فتنة مذهبية أو طائفية، ومع انفجار كل عبوة ناسفة تقتل طفلاً، أو عابر سبيل أو موظفاً متجهاًٍ إلى مقر عمله.. ومن كل عملية قتل جماعي لطلبة مدرسة عسكرية.. أو تجمع مدني، أو مصلين في بيت الله، وحين نرى جثث جنودنا وضباطنا المقتولين غدراً.
التقيت بأحد الأصدقاء وبعد أن انتهى من كلمات العزاء ومجابرتي باستشهاد الطفلين المذكورين آنفاً من أبناء عمومتي بعبوة ناسفة، قال لي: قرأت لك هذا الأسبوع في صحيفة الجمهورية مناشدة لرجال الدين الأتقياء وحملة الأقلام للتصدي لأعمال العنف والعبث باليمن.. والآن وبعد أن وصل العنف وأنياب القتل إلى المحيط الأسري للشعراء والكُتَّاب بقتل طفلين من أبناء عمومتك وابن عم للدكتور عبدالعزيز المقالح في يوم واحد.. تُرى هل سيستشعر حملة الأقلام دورهم بما يقرع أجراس الخطر ويحد من مغبات ما نحن فيه.
شيء من الشعر:
(ابنُ مَلْجَم) و(الهِرْمزان)
مع (ابن أُبَيْ) على مائدة(1)
يأكلون طعامَ التقارُبْ
يرفعون الكؤوسَ بِنَخْبِ التحاَب
وعيون المراقب
لا ترى غير حدِّ المخالب
وفتاوى استباحةِ دَمِّ وعِرضي ومال
(الروافض) و(الملحدين)
وكل الأجاَنب
والتقرب بالموتِ
من بعدِ ربطي الحزام
للرحيل إلى جنة الخُلْدِ في الآخرة
(1) إشارة إلى قاتلي الإمام علي بن أبي طالب وعُمر بن الخطاب
وإلى عبدالله بن أبي الملقب بكبير المنافقين