ما كان للمصريين أن يقولوا غير «نعم للدستور» بعد ما عانوا من طغيان الاخوان المسلمين في حكمهم وبعد سقوطهم.
لم يكن مستوى الاقبال على التصويت مفاجئاً للمراقبين المحليين والعرب وللإخوان المسلمين أنفسهم، وكذلك لم تكن النتيجة مفاجئة للمراقبين وإن كانت صادمة للإخوان. ربما أن المفاجأة أصابت بعض المؤسسات ودوائر صنع القرار في الغرب، حيث تبنى التوقعات على معطيات الظروف الاستثنائية التي جرى فيها الاستفتاء. والمعطى الأول: هو شدة الارهاب وانتشاره على طول أرض مصر منذ خرج محمد مرسي من قصر الرئاسة مطلع يوليو من السنة الماضية وتهديد الاخوان المسلمين وفروعهم التنظيمية بتصعيد أعمال العنف خلال يومي الاستفتاء، يبنى على هذا أن حالة هلع ستسيطر على السكان وتدفعهم إلى الاحجام عن مغادرة منازلهم أو مقار أعمالهم وتحاشي الاقتراب من أماكن الخطر المحتمل في المراكز الانتخابية وفي محيطها.
المعطى الثاني: هو تفشي ظاهرتي الأمية والفقر اللتين توفران بيئة درج الإخوان المسلمون على استثمارها في الـتأثير على قرارات الناخبين. وفي حالة الاستفتاء التي دعا الإخوان إلى مقاطعتها فإنهم سيوظفون قدراتهم المالية على رشوة الناخبين لإقناعهم بالعزوف عن إبداء آرائهم، وقد تبين أنهم استخدموا هذا السلاح بالفعل وكشفت الأجهزة الأمنية حالات تجميع بطاقات الناخبين بمقابل مالي بغرض حجزها خلال يومي الاستفتاء وضمان عدم إدلاء أصحابها بأصواتهم.
والمعطى الثالث: أن الاستفتاء جرى في فترة انشغال طلاب الجامعات في الامتحانات، وهم يمثلون نسبة كبيرة من الناخبين. ومهما يكن حماسهم للإدلاء بأصواتهم إلا أن الالتزام بأداء هذا الواجب قد يتطلب وقتاً طويلاً وثميناً في نظر الطالب يستغرقه الوقوف في الطابور والمسافة إلى مركز الاقتراع ذهاباً ورجعةً. هذا الأمر لم تضعه اللجنة القضائية العليا المشرفة على الانتخابات في حسبانها، ولعلها راعت اختصار الوقت وتوفير ما بقي لاستكمال تنفيذ خارطة الطريق، فضلاً عن هذا فقد قصرت الحكومة عندما لم تمنح موظفي الحكومة والقطاع العام إجازة يومي الاستفتاء، وراهنت على حماس المواطنين، معتقدة أن ست ساعات كافية بين انصراف الموظفين من أعمالهم وإغلاق مراكز التسجيل، لكنها في هذا تناست أن إيقاع الحياة اليومية في مصر يلقي على المواطن مشاغل بلا حدود وأن القرف من المواصلات والمشاوير الكثيرة سيعطل مئات الآلاف من الموظفين ويمنعهم من الذهاب للتصويت على الدستور.
يضاف إلى ذلك ما أظنه معطىً رابعاً: وهو أن شتاء هذا العام قاسٍ وبرد قارص، وأن الوقوف في طوابير الاقتراع بعد أن تأخذ الشمس انعطافتها من قلب السماء وحتى العاشرة مساءً أو ما بعدها «بحساب الوقت اللازم للعودة» يشكل مشقة لسكان بينهم مرضى وأغلبهم فقراء لا يملكون ملابس ثقيلة واقية من البرد.
قد يبدو الحديث منصرفاً إلى تفاصيل لا تمثل أهمية كبيرة في فهم ما جرى، لكن الظاهرة السياسية لا تدرس منفصلة عن الظواهر الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والثقافية، حتى الظواهر الطبيعية تؤثر على هذه جميعاً. ولعلهم في الغرب فوجئوا إلى درجة ما بحجم المصوتين على الدستور المصري من واقع هذه المعطيات، وهم بالتأكيد يعطون أهمية للعوامل النفسية في السلوك الإنساني، لكن قياسها بالنسبة للمصريين في الحالة الراهنة قد يفتقر إلى الدقة بحيث يرفعون تأثيرها إلى المستوى الذي لعبت فيه الدور في التأُثير على قرارات الناخبين.
أحد العوامل النفسية كان ذا تأثير سلبي وهو المتصل بالحذر من الأجواء الأمنية السياسية، غير أن بين هذه العوامل ما يمثل تحدياً يدفع الناخبين إلى التعامل معه بالكثير من الجرأة والحماس، ذلك هو ما أدى بالمصريين إلى أن يشاركوا بنسبة 38.6 % من مجموع المقيدين في جداول الناخبين، وهذه النسبة تعتبر فوق المتوسط في الاستفتاءات الدستورية بحكم اختلافها عن الانتخابات رئاسية كانت أو برلمانية، محلية أو نقابية حيث تنشط الأحزاب وجماعات الضغط لحشد المؤيدين ودفعهم إلى التصويت.
وبحسب المؤثرات المشار إليها في الظرف السياسي المضطرب وفي المناخ الأمني المزعج وفي أجواء الانتخابات والطقس البارد يمكن توقع أن أكثر من 50 % ممن أدلوا بأصواتهم كان مقدراً لهم أن يشاركوا إذا ما جرى الاستفتاء في الأجواء الطبيعية، كان ذلك سيرفع نسبة المشاركين ولقد جرى إلى ما يقرب من 60 % في تقييم الاستفتاء الحديث عن بعض الظواهر، ومنها عزوف الشباب عن المشاركة واعتبره البعض نوعاً من اللامبالاة، إذ يعتبر الكثير من الشباب أن خروجهم المتكرر إلى مراكز الاقتراع في السنوات السابقة لم تنتج عنه ثمار يلمسونها في الحياة السياسية والأوضاع الاقتصادية بينما عده آخرون تذمراً من اجراءات على رموز شابة برزت خلال سنوات الثورة الثلاث، وكلا التفسيرين تنقصهما الدقة، فالشباب الذي تردد على مراكز التصويت أكثر من مرة خرجوا إلى الميادين في 28، 30 يونيو و3 يوليو، وقد جاء هذا الدستور ترجمة قانونية لثورتهم تلك، وأما الإجراءات التي اتخذت ضد بعض الشبان المحسوبين على الثورة فلم تشمل سوى عدد قليل ضعيف التأثير بدليل غيابه عن المشهد الثوري في يونيو. وليس لي أن أحكم بأن الإجراءات صحيحة أو باطلة لأن الحكم في يد القضاء المصري بكل جلال تاريخه وتفرده بالمجد والنزاهة في العالم العربي، وهو وحده الذي سيقرر وجود أو عدم وجود الأًصابع الأمريكية في تحريك النائب السابق لرئيس الجمهورية الانتقالي محمد البرادعي وبعض الشبان الذين تحلقوا حوله. إن التفسير الأٌقرب إلى الحقيقة هو ظروف الامتحانات بالدرجة الأولى.
وأما الظاهرة الثانية فتتمثل في غياب السلفيين، وقد كانت عدم مشاركتهم ملحوظة من كل الذين تابعوا المشهد على القنوات الفضائية، لأن السلفيين على عكس الاخوان المسلمين يحرصون دائماً على إطلاق اللحى، وعلى نحو ما فليس كل ملتحٍ إخوانياً أو سلفياً لكن كل سلفي هو صاحب ذقن بالضرورة. الظاهرة الثالثة: هي ارتفاع نسبة النساء المشاركات في الاستفتاء، وتلك دلالة على غضب المرأة مما لاقته من احتقار وازدراء الاخوان المسلمين لها وما تعرضت له من أذى في الشوارع لم يقف عند نهرها على ما ترتدي من ثياب وإنما تجاوزه إلى إطلاق عصابات للتحرش الجنسي بهدف إكراه المرأة على لزوم منزلها والتخلي عن العمل والحياة بين الناس، وقد تكون هناك أغراض أخرى لا ينبغي الخوض فيها.
على أن الظاهرة الأكثر إلفاتاً هي المشاركة الواسعة لمن أطلق عليهم المصريون في بداية الثورة يناير 2011 حزب الكنبة وعنوا بهم غير المهتمين بالشأن السياسي، وقد تأكد أن هؤلاء هم الذين ملأوا الشوارع والميادين في 30 يونيو، لقد أجبر سلوك الاخوان المسلمين هؤلاء على الخروج عن الصمت ومغادرة الكنب للزحف على الشوارع.
وثمة بعد ذلك أن كبار السن شكلوا نسبة كبيرة فيمن خرج من النساء. وقد علق الاخوان المسلمون على ذلك بأن الذين صوتوا للدستور هم جيل النكسة، وفي شماتتهم بشعبهم نسوا أن جيل النكسة هو نفسه جيل اكتوبر. غير أن المعنى المستفاد هو أن كبار السن هم الأكثر حكمة والأوسع خبرة، ومن الحكمة والخبرة أدركوا قيمة الانعطافة التاريخية التي تشهدها بلادهم من الانقضاض على حكم الاخوان وأهمية أن يساهموا في توجيه هذه الانعطافة إلى المرمى الصحيح. إن الخوف على البلد والتصميم على المستقبل جعل المرضى يذهبون للاقتراع محمولين أو زاحفين على الكراسي، على أن المشهد المؤثر هو ذلك المريض الذي سار وكمامة التنفس على فمه وأنفه والرجل من خلفه يحمل قنينة الأوكسجين. هذا المشهد وحده يمثل إهانة للاخوان المسلمين وهزيمة تاريخية لمشروعهم.
وفي النهاية فقد جاءت النتيجة مدوية. لقد قال المصـريون نعم للدستور بنسبة 98.1 % من أصل (21) مليوناً و 600 ألف شاركوا في الاستفتاء وبالمقارنة مع دستور مرسي سنة 2012 فقد حصل على تأييد 66 % من مجموع مشاركين تعدوا بالكاد 16 مليوناً. وبحساب الأصوات فإن 10 ملايين و600 ألف قالوا نعم لدستور 2012، و19 مليوناً و985 ألفاً وافقوا على الدستور الحالي. لقد كان التصويت على الدستور المصري بكل الظروف التي أحاطت به هزيمة وإهانة للإخوان وانتصاراً وظفراً للشعب.