منذ الجاهلية الأولى كانت علاقة العربي بالأسلاف علاقة تواصلية مصيرية ترقى إلى مستوى التبعية المطلقة، فقد كان عرب الجاهلية يسيرون على ملّة آبائهم وأجدادهم، يجُلّون موتاهم ويقتدون بهم في الأقوال والأفعال، لكنهم إلى ذلك كانوا يحتفظون بهامش واسع من التمرُّد على نواميس الأسلاف؛ حيث إن السمة الدهرية في السلوك والنظر إلى الغيب ظهرت بطريقة لافتة، فبالقدر الذي كانوا فيه يجلّون موتاهم ويحترمون خصومهم المهزومين قتلاً؛ إلا أنهم كانوا يتعاطون مع الحياة بنهم وشراهة تكشف ريبتهم الكبيرة في المسائل الماورائية.
وعندما جاء الإسلام؛ كان من الأنسب للمنكرين على الرسالة أن يتّهموا الدين الجديد بالخروج عن ملّة الأسلاف وعاداتهم وتقاليدهم؛ أي أن التمسُّك بالماضي لم يكن تبريراً لميتافيزيقا النظر إلى الكون؛ بل للظلم الاجتماعي الذي كان يحيق بالكثيرين، أيضاً شعور الرافضين للدين الجديد بأنه سيأتي أساساً للقضاء على هذا الظلم.
ومن سخريات القدر أن «الطلقاء» الذين عفا عنهم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم سرعان ما استعادوا سيئات الجاهلية وخاصة لجهة احتكار السلطة وتعميم المظالم والتفريق العرقي والسلالي بين الناس؛ حتى إنهم أفرغوا الرسالة الإسلامية من جوهرها الأصيل وحوّلوها إلى طقس فولكلوري يتوارون وراء بهائه ويباشرون ما يتعارض معها سلوكاً.
أخذت هذه المتوالية مجراها التاريخي محوّلة العلاقة بالأسلاف إلى علاقة تبعية مطلقة لا اجتهاد فيها أو مناقشة، الأمر الذي حوّل النُخب المفكّرة إلى دوائر صغيرة تحاصر بالتكفير والترهيب والقتل وحرق المؤلّفات.
إن هذه المسألة تتسم بذات الأهمية الفكرية والنظرية في أيامنا هذه، فالتعليم السياسي والاجتماعي السائد في العالم العربي يحرص على إدخال المستقبل في ثقب إبرة الماضي بإخضاع السؤال للجواب التام، والعقل للنقل الميكانيكي الجامد، والآخر للذات المتشرنقة في كوابيس استيهاماتها وعصابها الذهني..!!.
إن الأموات يحكمون الأحياء حقاً في مثل هذا الزمن، وإن الأسلاف الكبار يتحوّلون إلى بورصة استعارات للمبرّرات التي تعمّم المظالم واللا معقول.
Omaraziz105@gmail.com