الذين أرادوا حصر الانتقال الديمقراطي في أقطار الربيع العربي في حصول تنظيمات وأحزاب التيار الديني على الأغلبية الساحقة من أصوات الناخبين, في الانتخابات التي شهدت سقوط أنظمة الحكم في تلك الأقطار, كانوا يروّجون لمشروع سياسي يسعى إلى إقامة تكتّل إقليمي بين دولة محكومة بالتيار الديني, بعيداً عن استحقاقات التغيير وشروط التحوّل نحو الديمقراطية.
في تونس, كان التغيير يقود العملية السياسية نحو أسس البناء الديمقراطي البديل للنظام المنهار, وفي نوفمبر 2011م, انتخبت تونس مجلساً تأسيسياً مهمته إنجاز العقد الاجتماعي الجديد في دستور مؤسّس لدولة مدنية ديمقراطية خلال عام, وعلى ذلك تكونت السلطة الانتقالية من ائتلاف ثلاثي واتجاه نحو الشراكة الوطنية معزّزة بحرص على التوافق السياسي والوطني في عملية صياغة الدستور الجديد.
فازت جماعة الإخوان المصرية برئاسة الجمهورية, فتوهّمت أن أغلبيتها العددية في صناديق الاقتراع تمنحها الحق في التفرّد بتشكيل النظام السياسي البديل وصياغة دستوره الجديد بعيداً عن الشراكة والتوافق, الأمر الذي عزّز من قوة الجناح الأخواني داخل حركة النهضة التونسية لتنحرف بقرارها نحو وهم التمكين الاخواني بمصر, فتعطّلت العملية الانتقالية, بل وتحول المجلس التأسيسي إلى برلمان والحكومة الانتقالية إلى سلطة وبحيث دخلت تونس أتون أزمة من الفوضى والاغتيالات والاستقواء المتبادل بين سلطة النهضة والمعارضة بالحشود الجماهيرية.
أعادت أحداث مصر التي أسقطت حكم القوة للتيار المدني السياسي داخل حركة النهضة، فانخرطت بحوار انتهى بتونس إلى عقد اجتماعي جديد في دستور منجز بالشراكة والتوافق لتقدم تونس مثالاً فريداً للتحوّل الآمن نحو ديموقراطية ناشئة ومن خلال نموذج متميز لحزب ديني متحرّر من الازدواجية القاتلة لجماعة إخوان مصر, حيث الحزب مجرد ذراع سياسي لجماعة دينية خاضعة لسلطة المرشد العام وتجاذبات الوهم الإقليمي بالخلافة.. أدركت حركة النهضة أن بناء الديمقراطية في تونس هي المهمة التي لا تعني أبداً تمكّنها من السلطة واستيلائها على الحكم, وتدرك الآن أن الديمقراطية الناشئة هي المصلحة الوطنية العليا التي بتحققها يتحقق التوازن والسلام للصراع السياسي, وتضمن الحقوق والعدل لقوى هذا الصراع سواءً كانت في سلطة الحكم أو خارجها, وهذا هو المشروع الوطني للشعب التونسي والذي يمنح النهضة قوتها الشرعية والشعبية حتى وإن توهّمت بعض القوى المخالفة للنهضة والمعارضة لها أن بمقدورها العودة إلى نظام الإقصاء والإلغاء, فإن الشعب التونسي سيتصدّى لها دفاعاً عن مصلحته القائمة في الرشد السياسي والتعددية الضامنة للسلم الاجتماعي وللحريات والحقوق, فمن يدرك عظمة المثال التونسي؟!
albadeel.c@gmail.com