خلال الأيام القليلة الماضية انتابتني كآبة نابعة من قنوط وحيرة، فانصرفت لقراءة الآداب الفلسفية المكتوبة باللغة الرومانية، لعلني أجد فيها ملاذاً من العجز عن إدراك واستكناه ما ينتاب الوطن والعالم العربي من بلايا، وقد توقفت ملياً أمام بعض الأسماء الهامة في هذا الفضاء. أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، mircea eliade القارئ الحصيف لتواريخ الملل والنحل والأديان، و emil cioran البرهاني المادي الجدلي ، و petre tutea الصادر عن ثقافة طهرانية دينية اقترنت بجدل الفكر، ولعل بيتري يمثل أكثر الأسماء إثارة للجدل، لكونه مسيجاً بثقافة دينية مسيحية أرثوذوكسية، اقترنت في مسار تاريخه المتعرج باحتضان واسع وكبير للفلسفة، حتى أن «تسوتيا» يمثل محطة استجلاء مفاهيمي لغوي يقترن بالجدل الفلسفي الأوروبي الكبير. 

 ولد «بيتري» في مطالع القرن العشرين المنصرم، وتبوأ مسؤوليات ثقافية فكرية قبل الحرب العالمية الثانية، وكان من المستهدفين القلائل بعد قيام النظام الاشتراكي في طبعته الاستالينية التي تلت الحرب العالمية الثانية، وقد سجن مرتين .. مرة لعدة سنوات .. ثم بعد ذلك لمدة 13 عاماً قضاها في سجون نظام تشاوشسكو، وفي معرض تبريره لذلك السجن المديد استعاد ما قاله له أحد الأصدقاء فيما كان محتاراً من تصرف الأمن الروماني الذي ألقى عليه القبض وهو شخص لا ناقة له ولا جمل في الممارسة السياسية المباشرة.. فقال له ذلك الصديق: تم إلقاء القبض عليك لأنك تقوم بمضاربة مقلقة في جدل الفكر!. 

لقد وقع بيتري ضحية تساؤلاته وتأملاته، ورفضه المنهجي لثوابت الفكر المدرسي الجامد للاستالينية السياسي والفكري ، ولأنه كان قوي الحجة .. مؤثراً في تعبيره .. وصادقاً حد الوضوح، فقد دفع ثمن هذه المِنَّة الإلهية ليلقى به في سجون الـ securitatea romana الكئيبة، ولمدة طويلة، مع الأشغال الشاقة . 

بعد خروجه من السجن يتابع بيتري مسيرته الحافلة بصدق المقال، والتداعي الحُر مع قناعاته، بالإضافة إلى تعريفاته المُبْتكرة لجملة من المسائل الوجودية والفلسفية والدينية، وعلى نحو جامع بين مدهشات القول، وحصافة التحديد ، وحرية التعبير، مما سنأتي عليه تباعاً. 

Omaraziz105@gmail.com