غادر الطفل مرابع أيامه الزاهية كيما يتمنْطق مشقة الدهر وعواصفه العاتية، باحثاً عن طمأنينة مُستحيلة، وقلق يصعب انتظامه، وطوبى لا وجود لها في الحياة الفانية .
خلال رحلة المشقّة الطويلة انجلت الصورة أمامه وكانت اللغة بمثابة الميزان الذي يُحاصر الرسم والصوت والدلالة.
اللغة قيمة تشكيلية مؤكدة، وأُخرى صوتية لا مفر منها، وثالثة تتجاوز المستويين إلى المجهول، حيث لا كلام ولا مرئيات.
اللغة ترميز أقصى للماهيات والموازين الكونية.. تستبطن كامل شروط الوجود المرئي واللامرئي، والعربية تلتزم هذا النهج من خلال سياقها الصرفي وميزانها النحوي، فهي لا تُكتب كما تُقرأ كحال أغلب اللغات، بل إن رسمها المكتوب يعبّر عن بعض من كُل، فالصوتيات مُضمرة في العربية، فليس من الضروري أن نكتب الحركات التسع المعروفة “ فتحة وضمة وكسرة وفتحتان وضمتان وكسرتان، وسكون ومدّ وشد ” .. وهذه ليست مثلبة بل ميزة كبرى ترينا كيف أن المرئي في العربية يتوازى مع اللامرئي، وكيف أن مقام اللامرئي أسمى وأجل قدراً من المرئي المكتوب، وكيف أنها لغة تتجاوز البرهان الرياضي الشكلاني إلى آفاق موصولة بالذائقة والغيب.
نكتب بعضاً من الكلام للتدليل على كل الكلام، لأننا نكتب الكلمة دون صوتيات، لكننا نقرأ كل الكلام فنغيب في “التعمية” الإبداعية الموصولة بالذاكرة والذائقة، فالكلمة تعيش انزياحاتها الدلالية المطلقة، والإشارة تقبع وراء العبارة، والاتصال غير اللفظي سمة حاسمة في ميزان الجمال والجلال .
الاتصال غير اللفظي إشارة لتعدد اللغات الدالة، وتعبير عن فضاءات الكلام المتنوعة، والحاصل أن كل إشارة وعبارة وإيماءة، تعبير يوصّل إلى الكلام، سواء جاء الكلام بوصفه صوتاً أو إشارة أو إيماء أو مُلامسة.
Omaraziz105@gmail.com