يشكّل التطرُّف والغلو مشكلة كبرى، ليس في الأفكار الدينية فحسب بل في عملية حجب الحقيقة، حينما تكتب مؤيداً يُقال عنك منافقاً، وحينما تنتقد يقال عنك معارضاً، وفي كلتا الحالتين ستجد الرقيب ظاهراً يمنح نفسه حق التفتيش في عقل الكاتب ويحلّل ما يدور في داخله مدّعياً أنه حريص على المصلحة العامة.
الخطير في الأمر هو أن الرقيب يمنح نفسه الحق في إلغاء ما يكتبه الكاتب، زاعماً أنه يحافظ على أمن الوطن ويمنع وقوع فتنة؛ حتى يتحوّل الرقيب إلى متطرّف خطره أشد من المتطرّف الديني لأنه يحجب الحقيقة؛ بل يزوّرها ويقدّم معلومات مغلوطة تجعل صاحب القرار يتخذ قرارات خاطئة تضرُّ بالوطن والمواطن.
كل الذين حكموا اليمن رجال عظام لم يكونوا سبباً فيما نحن فيه، ما نحن فيه سببه هو الكذب على الحاكم وتقديم معلومات كاذبة له ومحاولة تنزيهه عن العيوب وعدم السماح بنقده.
ما نحن فيه سببه أن الذين يجرأن على الكلام يتم حجب ما يقولون أو تصويرهم بأنهم معارضون حاقدون يلبسون "نظارات سوداء" كل من يعترض على مسؤول يعتبر خائناً وعميلاً، مع العلم أن الذين يفاخرون بعمالتهم يتواجدون قرب المسؤول.
الحقيقة أنني كتبت حول جامعة «الإيمان» وما تشكّله من حاضنة للتطرُّف والإرهاب، بل أنني كنت من أوائل من كتب عن هذه الجامعة وعن صاحبها وخطورتها، لكنني أجد أن خطراً يوازي خطر هذه الجامعة وربما يفوقه وهو ذلك الذي يمارس دوراً إقصائياً على النقد وهو يُفقد المسؤول القدرة على رؤية أخطائه.
يعلمنا التاريخ أن السلطة عندما تحتكر الحقيقة وكذلك الوطنية وتتهم من ينتقدها بـ«الخيانة» فإنها حتماً تقود البلاد إلى كارثة؛ ولست بحاجة إلى القول إننا نعيش اليوم ما كنّا نعيشه في الأمس، نفس الأجواء نعيشها الآن من جديد.
كتبت كثيراً أدعو إلى تغيير الحكومة، واعتبرت ذلك عملاً وطنياً عظيماً، وكنت ومازالت أعتبر الرئيس هادي صمام أمان؛ لكنني لا أوافق على طريقة إدارة بعض الأجهزة الحكومية.
فقد عاد الفساد وانتشرت الفوضى وغاب الأمن ولم تحدث مصالحة سياسية ؛بل زادت الهوّة بين السياسيين واتسعت قاعدة الثأر، وبدلاً من تأصيل العدالة التصالحية؛ إذ بنا أمام العدالة الانتقالية التي توسّع من قاعدة الثأر والكراهية والحقد، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يحتاج اليمنيون إلى قانون لكي يحبّوا بلادهم..؟!.
لقد كان مؤتمر الحوار الوطني معملاً كبيراً نتعلّم منه لكي نؤكد فضائل الحوار ونتلافى الخلافات، لكن للأسف خرجت القوى السياسية من هذا المؤتمر وهي أشد عداوة مما كانت عليه قبل الحوار..!!.
وفي بلد مثل اليمن - لايزال يحبو ديمقراطياً - يحتاج إلى حوار ممتد؛ ليس فقط حتى يفهمه الشعب والأجهزة الأمنية، وإنما أيضاً الإعلاميون الذين عليهم أن يقوموا بما لا يقوم به الآخرون.
لذلك أقول كما قلت في مؤتمر الحوار وكما كتبت كثيراً: نحتاج إلى عدالة تصالحية وليس عدالة انتقالية، فالعدالة التصالحية تحتكم إلى قواعد المؤسسات الدستورية وكذلك التوافق حول جملة القوانين ذات الصلة بدولة المؤسسات وحقوق الإنسان.
نحتاج إلى رفع مستوى الوعي لدى المواطن اليمني بحقوقه وأهمية مشاركته في تدبير شؤونه العامة الوطنية والمحلية وتقوية حرية التعبير والصحافة المسؤولة والانتماء والتجمُّع؛ فمثل هذه التحوُّلات ستُحدث مصالحة حقيقية لدى اليمنيين مع تاريخهم.
نحتاج إلى تسوية سلمية وعادلة ومنصفة لماضي انتهى بهدف تصالح اليمنيين مع ماضيهم سواء في الجنوب أم الشمال، ونحتاج إلى العدالة التصالحية بدلاً عن العدالة الاتهامية، والحقيقة التاريخية بدلاً عن الحقيقة القضائية، المصالحة ساحتها ليست المحاكم بل الفضاء العمومي الذي يتسع أفقه ليشمل كافة فضاءات الفعل الاجتماعي والثقافي والسياسي.
نحتاج إلى بناء الهوية الوطنية المشتركة؛ وهذا يتطلّب فتح مجال النقاش الحُر والجدل الديمقراطي؛ حتى نسهم في إعادة تقوية الهويّة المشتركة ونقضي على التطرُّف أياً كان نوعه.
Omaraziz105@gmail.com