لفتت انتباهي أشياء كثيرة خلال دراستي الجامعية للفلسفة وعلم النفس منها: إن الإنسان عندما يقع تحت وطأة الظروف القاهرة وقساوتها قد يتصرف أو يقدم على تصرفات مخالفة للعقل والمنطق بحثاً عن حلّ يئس عن التوصل إليه عبر ما يؤمن به علمياً وعقلياً وثقافياً.. أو طلباً لمخرج مما هو فيه أو بحثاً عن بصيص أمل يتعلل به.
وكنت أظن أن ذلك قد يحدث للعوام من بسطاء التفكير وأميين ومحدودي التعليم والثقافة، ولكني سرعان ما تأكد لي أن الوقوع تحت وطأة الظروف القاهرة قد تدفع من على درجة ممتازة من التعليم والثقافة والاطلاع.
فقد كان لي صديق ـ رحمه الله ـ على درجة كبيرة من الثقافة، درس البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية، عالم في الإدارة والاقتصاد والعلوم السياسية، هذا الصديق كان يتألم إلى درجة المعاناة؛ جراء مرض مزمن أصاب أحد أبنائه، ولعله ناتج عن ضمور عقلي.. بذل ما في وسعه لعلاجه في اليمن والهند وأمريكا.. وفي أحد الأيام فوجئت أنه ذهب بابنه المريض إلى أحد المشعوذين الذين ذاع صيتهم حينها من إحدى المدن الصغيرة بمحافظة البيضاء، فلم أستغرب كبقية الأصدقاء بل قلت لهم: اعذروه، إنّها الظروف القاسية وقسوة وطأتها عليه في أعز ما يملك هو ابنه.
حينها تأكد لي أن العالم والمثقف والحداثي أيضاً يمكن أن يتصرف بما يخالف العقل بحثاً عن أمل وحل يساعده على محنة وقع فيها.. وها أنا اليوم أرى أن الظروف القاسية ووطأتها الثقيلة يمكن أن تدفع بزعيم حزبي أو سياسي أو صاحب مشروع يروج له على أنه الحل والمخرج ومصحح المسار، يمكن أن تدفعه إلى التصرف بما يخالف العقل والمنطق، وما يؤمن به من قواعد دينية وسياسية... إلخ.
تحت وقع تأثير فشل سياسي أو نكبة حزبية أو هزيمة عسكرية أو أية صدمة تحدث تحولاً سلبياً كبيراً في مسار المشروع الذي يتبناه، وليس هناك ما يمنع التماس العذر له؛ كونه في حالة صدمة أوقعته تحت وطأة وقسوة ظرف مرير.
منذ أيام مضت وأنا أقرأ في صحافتنا اليومية، وأتابع سلسلة من الكتابات ذات النقد السياسي بكل أنواعه بما فيه الساخر واللاذع والمتهكم، لما ظهرت من ردود فعل لساسة وإعلاميين جراء المتغيرات والمستجدات في شمال الشمال اليمني.
كتابات تتناول بنقدها الساخر تعاطي ذلكم الحزب أو التجمع لهزيمته في حاشد بتلك الحدة المفرطة، أو تلك الدعوة إلى التصالح مع حزب المؤتمر الشعبي العام، وإعادة التحالف «المؤتمري الإصلاحي»، وكذلك الهجوم الذي تعرض له بعض أطراف اللقاء المشترك ونال وزير الدفاع كما يقول بعض الكتاب الذين لم يتوانوا - بل تنوعت أساليبهم - في نقد الدعوة إلى ذلكم التصالح والتحالف، ومن يحذرون أو يبشرون بـ«داعش» الأم والترحيب بها.. ومن يحدثون المناوشات المسلحة هنا وهناك، ومن يسخرون وسائلهم الإعلامية لذلك بما قد يزيد الطين بلة، شأنه شأن الانفعال المؤدي إلى التلفظ بألفاظ نابية، أو نسبة المخالفين إلى «أبناء لوط»... إلخ.
أقلام امتشقت لتناول الانفعالات المشار إليها بكل سخرية وشماتة مبطنة وواضحة.. وصار ما تخطه زاداً يومياً للصحافة الأهلية والحزبية، وإذا ما كان هذا نتاجاً طبيعياً لما يحدث ويطرأ على الساحة من مستجدات يرى فيها البعض مكاسب هنا وخسائر هناك، ومادمنا لا نرى ما يكتب إلا تجسيداً لحرية التعبير وتقابل الرؤى والأفكار المختلفة، فهل الحال يستدعي أن نضع ما يرى فيه هذا الطرف أو ذاك خروجاً عن المنطق والعقل، بل واستخفافاً به؟ هل نضعه وننظر إليه في إطار ردود الأفعال الناتجة عن وطأة ظروف قاهرة قاسية؟!
فنلتمس عذراً لمن أقدم على ما أثار تلك الأقلام، وندعو إلى ما يدفع بالأمور نحو التعقل وفهم الواقع واستيعاب وفلسفة مستجداته، والدفع بالعجلة نحو حوارات وتصالحات تخرج الوطن من أزمته وتوقف نزيف الدماء وزرع الضغائن والأحقاد، ودفن النعرات المختلفة بجانب الفتن الملعونة، وأن تكون التحالفات لهذا الغرض لا للاستقواء والانتقام وفتح معارك جديدة.. فالحكمة تقول:«من يستلّون السيوف لا يستطيعون الجلوس عليها».