المحطة التالية في حياة الراحل الدكتور مصطفى محمود والأكثر أهمية تمثلت في انقطاعه الجبري عمَّا أحب وعشق، ظهرت بعد أن تم منعه من مواصلة الدراسة الجامعية في كلية الطب بعد إصابته بمرض رئوي قاتل، وكان لا بد من عزله ثلاث سنوات، وكان ذلك العزل الإجباري مناسبة استثنائية ليقرأ كامل الآداب الإنسانية المترجمة إلى العربية، وعديد النظرات الفلسفية، بشقيها المادي والميتافيزيقي، وأن تتحول تلك العزلة الإجبارية الطويلة إلى شرنقة موت حقيقي، تنبعث منها فراشة رشيقة جميلة تطير في هواء الكيفية، وتُناجز السببية، وتقف على العلل والمعلولات، وتمتشق مراكب إبحار عاصف صوب أقاليم الغيب والمدهشات، فإذا بالطبيب الأريب، العاشق لمشرحة الموتى، وتفاصيل جسومهم الخابية في ديمومة الرحيل، يتحول إلى أديب كاتب، فيما تتوازى مع هذه وتلك تكشُّفات نورانية لعوالم الطبيعة وأسرارها الكبيرة.
نحن هنا إزاء حالة موسوعية تذكرنا بمدن القرون الوسطى التي أنجبت نفراً من العلماء الذين تميزوا بالموسوعية المعرفية، وجمعوا في ذواتهم الرائية، كل شاردة وواردة، وأصبحت الدالة المعرفية في حقل من الحقول لديهم، بمثابة رافعة لبقية الحقول المعرفية، وكانت مسارات المعرفة الأفقية المتنوعة، منتظمةً في سياق واحد من النواميس والقوانين الداخلية الضابطة لإيقاعها ومصائرها.
لكن ما يهمنا على وجه أخص في هذه المقاربة هو الوقوف على العلاقة الجدلية بين العقل والإيمان عند مصطفى محمود، وهي علاقة ما كان لها أن تثير كل ذلك النقع الرمادي، لولا سيرته المعرفية والوجودية التي اقترنت بإبحارات، وتجارب، وتساؤلات لا متناهية، حتى أن بعض علماء النصوص استكثروا عليه الولوج إلى مناطق، استوهموا أنها بعيدة عن معرفته الأكاديمية، ولقد بدت تلك التوصيفات العابرة بمثابة خدوش صادرة عن حُسن نية، لكنها لم تصمد طويلاً أمام الحقيقة المجردة.
Omaraziz105@gmail.com