حدّد اتفاق السلم والشراكة الوطنية معايير الأهلية الشخصية لتولّي المسئوليات العامة في الحكومة الجديدة بعنوانين جامعين هما: الكفاءة والنزاهة, واللذين يشملان كل مواصفات الأهلية اللازمة لأداء المسئولية باقتدار ونجاح, فالعلم وخبرات العمل يحدّدان معيار الكفاءة, والنزاهة تكمّل الأهلية بما هي معيار سلوك مشهود بأداءات المسئولية وإنجاز الأعمال, لكن ما هي النزاهة التي اشترطها الاتفاق؟ وكيف نتعيّن في حاملها وتبقى شرطاً مُلزماً ودائماً؟.
يمكن القول: إن المسؤول النزيه هو الذي تجنّب الفساد فيما عهد إليه من مسئوليات, وسلم عمله من إفساد المسئولية والإفساد بها, وهنا أكاد أجزم أن كل الذين عملوا في مواقع المسئولية الرسمية في الفترة الماضية لن تتوفر لأحدهم وبه شرط النزاهة لشمولية الفساد وغلبة الإفساد على الأداء الرسمي والإدارة الحكومية, فمن أين تأتي النزاهة إذاً؟.. دعونا نقول: إن النزاهة ليست سلوكاً فردياً فقط, ولكنها أيضاً بيئة ونظام مؤسّسي, وقواعد قانونية تنظّم الأداء وتحدّد المشروع وغير المشروع من الأعمال والإجراءات, ثم إنها، أي النزاهة بعد ذلك رقابة على الأداء ومساءلة عن التصرّفات ومحاسبة على المسئولية بشرط العدل في الجزاء على مبدأ الثواب والعقاب, وهنا نقول أيضاً: إن النزاهة ليست معايير فردية, وإنما مهام عملية تقتضي إعادة بناء المؤسسات الحكومية على شرطها وتحديد وظائفها بهذه المعيارية للنزاهة.
تُبنى النزاهة إذاً بنظام قانوني محكوم بالمساءلة ولكي تتحقق المساءلة عملياً, يجب أن يخضع الأداء العملي للأجهزة الحكومية للرقابة وأن يكون متاحاً للاطلاع, وعليه فإن أداء الحكومة الجديدة يجب أن يكون متاحاً لوسائل الإعلام وخاضعاً للرقابة والمحاسبة ومحكوماً بسلطة القضاء, وهذا يضيق دوائر الفساد ويوسّع دائرة التنافس على الكفاءة والنزاهة, فالفساد يقوم على غياب المساءلة وانعدام الرقابة, وتحرّر المسئولية من ضوابط النظام وقواعد القانون.
يبقى أن نقول: إن الفساد الذي هيمن على مفاصل المؤسسات الحكومية قد يغرينا بالانزلاق بأولوية مكافحة الفساد إلى هاوية تصفية الحسابات السياسية وحتى الشخصية, وعليه نشدّد على أولوية بناء نظام النزاهة في مؤسسات الحكومة والانطلاق من هذا النظام في مكافحة الفساد, إذ لن تكون هذه المكافحة ممكنة ما لم تكن قائمة في بنية النظام ووظائفه, وتمثّل المعايير التي نفرّق بها بين الصالح والفاسد, ونحاكم بمرجعيتها كل أداء بالعدل الذي يستحقه العمل والجزاء والثواب والعقاب.
albadeel.c@gmail.com