انقطعت أخبار «مريوم» عن الحارة لأُسبوعين مُتتاليين، فقرر أهل الحارة الترحُّم عليها ليقينهم بأنها لاقت حتفها في البر الثاني، وفي ذات اليوم الذي حولوا فيه مركب نومها الخشبي المتهالك إلى نعش رمزي لها، شاهدوها تنبثق من أحشاء البحر وزرقته القاتمة، فبدت كالطود الراسخ في اعتلاء قامتها التي استطالت أكثر من أي وقت مضى، حتى التبست على الناظرين للهيئة، وقال أحدهم : ليست مريوم هذه التي ترونها، بل سارية سفينة قادمة نحو البر.
تلك الرؤية المتضببة لسارية مريوم الشراعية سرعان ما ظهرت على حقيقتها، فها هي العائدة من طوفان الموت تتموْضع في القلب من المشهد البانورامي لحارة النوارس والبيوت المُشيَّدة من سعف النخيل، وتُناجز المساحات السرمدية التي تتناوب التنفُّس مع الملوحة والرطوبة والحرارة، لتُباشر موسيقى الأنين اليومي، بالترادف مع بحر كسول لا يتخلَّى عن مده وجزره الدائمين، بل وزهوه الأزلي بمساءات الشفق العابر، ومعانقة الرياح البحرية التي تطفو كاسفنجة تعتلي سطح الماء.
خرجت من البحر ولم يتعرَّف عليها الناس، فقد ازداد جسدها الناحل ضموراً، وامتقعتْ بالحروق من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين، وبدتْ عينها الوحيدة الظاهرة للملأ كما لو أنها عين ضفدع أخضر. كانت مشوَّهة وممزقة، حتى اعتبرها البعض جِنيَّة قادمة من عوالم الكائنات الزرقاء الَّلزجة.. ذات العين الواحدة.
بمرور الأيام استعادت مريوم سيرتها الأولى، وظلَّت في الحارة تُناجز الرطوبة والملوحة والحرارة.. تُباشر، وكعادتها الدائمة، مناماتها المقرونة بحوار الجسد والجنس، وفي ذات القارب المتهالك بجوار بيت حمد الطيب. كانت لا تعرف الفرح البتَّة كما الذين يفرحون، ولا تبدو حزينة كعادة الحزانى من الناس، لكنها تبكي بحرقة شديدة إذا ما سمعت أن طفلاً في الحارة قد يتعرض للضرب من والديه.
حدث مرة أن سمعت من وراء الجدار، تأنيباً لطفل لم ينتظم في الذهاب إلى مدرسة القرآن الكريم بالحارة.. قالت الأم للطفل: الفقيه سيضربك أيها الشقي، لأنك لم تلتزم بالذهاب إلى مدرسة تعليم القرآن الكريم.
حالما سمعت ذلك القول أجهشت بالبكاء كم لو أنها أمرأة ثكلى. فاغرورقت عيناها بالدموع، وتردد صدى أنفاسها المتقطعة في أرجاء الحارة، حتى اجتمع الناس عليها لمعرفة سبب بكائها، وتطييب خاطرها، فقالت لهم بلسان الحال وفصيح المقال: لأن الولد سيُضرب إذا ذهب إلى المدرسة!.
Omaraziz105@gmail.com