إذا كنّا نقيس الزمن الفيزيائي بالساعات والدقائق والثواني؛ فإن زمن الإبداع يخرج من هذا القياس؛ لأنه مفتوح على المدى وموصول باللازمان واللامكان بالرغم من ارتباطه المؤكّد بالوقائع الزمانية والمكانية.
تلك المسافة الحسّاسة التي تصل وتفصل بين الزمان واللا زمان هو ما يمكن تعميره بلغة الإبداع.
يقول النفري بلسان الحق: القرب الذي تعرفه مسافة، والبُعد الذي تعرفه مسافة، وأنا القريب البعيد بلا مسافة.
وعلى ذات النسق يعبّر «النفري» عن العلاقة بين الممكن والمستحيل؛ مقدّماً رؤية دلالية عميقة الغور وراكزة في أساس النص الإبداعي، يقول: إذا برزت لك النار فقع فيها ولا تهرب؛ فإنك إن وقعت فيها انطفأت، وإن هربت منها تبعتك وأحرقتك..!!.
هذا القول تدليل على الدهشة والمفارقة القادرة على إيجاد وشائج اتصال معنوي وإبداعي بين الظواهر التي تتنافى مع الغريزة أو تسمو على الشروط المباشرة في الفعل الإنساني.
يتقدّم الإبداع على خُطى الفجوات المفتوحة في المعنى والمبنى، فالإبداع لا يكتم ولا يدّعي الإحاطة العقلية والمنطقية بالظواهر، بل العكس تماماً، إنه يفتح الباب للتساؤل فيما ينغمس في المجهول مغايراً أنساق الأزمنة وأبعاد الأمكنة ومعاني المفردات وتصاوير الأشياء المألوفة.
إن الإبداع يتسع لعوالم الإنسان الداخلية على ما فيها من وعورة وتعقيدات وفي ذات الوقت ينساب برشاقة غنائية.
المبدع الكبير يتمثّل النص مرّة واثنتين؛ ثم ينساه، ثم يستعيده في لحظة من العسر والتفتقات الوامضة، إنه أشبه ما يكون بالفراشة التي تخرج لتوّها من شرنقة الظلام والموات بعد أن تكون قد مرّت بمراحل سفلية سابقة على الجمال والطيران.
المبدع يتحلّى بالتصالح مع ذاته؛ لأنه يتسق مع نواميس التاريخ ولا يمارس قهراً على ذاته وعلى ما يحيط به من أحوال، إنه الصامت الكبير فيما يقول أعمق الكلام كما كان النفري.. والمتسائل دوماً فيما يعلم الآخرين كما كان سقراط، والعاشق الدائم للسلم كما كان غاندي ومانديلا وغيرهم الذين تخلّوا عن ثقافة العنف وأمسكوا بجمرة الخيار السلمي؛ وهم يعلمون يقيناً أنهم على درب التضحية سائرون.