من علامات تحضّر المجتمع ومدنيته، ما تبرز وتترسخ فيه من مظاهر التكافل الاجتماعي، المنظم المستند على أُسس وضوابط تكفل حمايته واستمراريته..
وبالعودة إلى وثائق التكافل الاجتماعي في تاريخنا غير البعيد وما كان ممارساً إلى ما قبل نصف قرن مضى، نجد أمامنا سؤالاً يقول: هل كان اليمانيون أكثر تحضّراً ومدنية عكستها ممارسات التكافل الاجتماعي المنظم المُطَّهر من دوافع الاستقطاب السياسي ومن رواسب التعصب العرقي والمذهبي، والتمييز الديني، وأن لا فرق بين مسلم ويهودي.. كما تدل وقفيات الأعمال الخيرية، ومد يد العون إلى فقير ومحتاج لمساعدة، ورعاية الرفق بالحيوان.. إلخ؟!.
لم يكن مجتمعنا اليمني يعرف ما نسميه اليوم الجمعيات والمؤسسات الخيرية والإنسانية.. كما في عصرنا، فسنَّ الأجداد تشريعات تنظم تقديم المساعدات التكافلية الإنسانية تحت مظلة الأوقاف، أي ما توقف من أراضٍ زراعية وعقارات لصالح أعمال خيرية حرصوا عليها وتسابقوا إليها.
كان مصدر الدخل أو الثروة -بمفهوم ومقاييس ذلكم الزمن- شبه محصور على مصدرين اثنين، هما التجارة، والزراعة.. هذان المصدران المحدودان، جسّد اليمانيون بهما صورة مشرقة من صور التكافل والتلاحم المجتمعي كما تحكي وقفياتهم لأعمال الخير والبِر..
لم ينحصر الأمر على ما أوقفوه من أراضٍ كمقابر للمسلمين وغير المسلمين كاليهود، حيث تم إيقاف مقابر لهم في صنعاء، وذمار وعدن وغيرها من المُدن والقرى التي يتواجدون فيها، ولا على ما تم وقفه من أراضٍ زراعية ودكاكين وأسواق وسماسر «نُزُل أو فنادق ذلكم العصر» يعود ريعها إلى إقامة المساجد، وآبار مياه الشرب.. ولكنهم وسّعوا أعمالهم التكافلية الخيرية تلك لتشمل جوانب مختلفة لم تلتفت إليها حتى المؤسسات والجمعيات الخيرية في عصرنا وزمن الثروات المتراكمة.. حيث أوقفوا ما يعود دخله أو ريعه المنتظم على مجالات منها ما سُمّي بـ«حق العلماء والمتعلمين» أي ما ينفق على مشائخ العلم وطلابهم وهذا ما لمسته من خلال ما كان يُصرف سنوياً على مشائخ العلم وطلابه في المدرسة الشمسية بذمار إلى ما بعد قيام ثورة سبتمبر 1962م بسنوات.
- ما ينفق على بناء وصيانة منازل «جمع منزلة» طلاب العلم ومشائخهم وهي الغرف التي تُبنى حول بعض المساجد لينزل فيها طلاب العلم القادمون من الأرياف والمُدن الأخرى تأميناً لسكنهم، إضافة إلى الوجبات التي تقدّم لهم يومياً من بعض الأُسر تحت مسمَّى «الراتب».
- وقف المنتكل أو المفلس، وهو ما يخصص ريعه لمساندة من انتكل أو أفلس في تجارة أو حرفة يقتات منها ويعول أسرته..
- ما ينفق على من يقوم بقيادة المكفوفين «مداداة العميان» أي ما يُعطى كحافز لمن يقوم بهذا العمل الإنساني، ويساعد الكفيف، ويجنّبه عوائق الإعاقة البصرية.. وفي هذا صورة رائعة للتراحم.
- وقف فقراء اليهود، وهو ما يخصص إنفاقه على المعوزين والفقراء من اليهود، تجسيداً للتراحم بين أفراد المجتمع الواحد، بغض النظر عن دين أو مذهب.
- أوقاف الرفق بالحيوان، وهي الوقفيات التي كانت عائداتها تُصرف على رعاية الحيوانات التي بلغت مرحلة العجز، أو استغنى عنها أصحابها، أو أُصيبت بكسور أو أمراض تجعلها غير ذي جدوى، فيلقي بها أصحابها أو مالكوها إلى التشرّد، وما ذلكم السوق المُسمَّى «بسوق العِرْج» في صنعاء القديمة وسوق «العلف» في ذمار إلاّ إحدى الشواهد على الأماكن التي كانت تخصص لرعاية الحيوان.
- وقف المحصنات، وهو ما كان البعض من أهل الخير الميسورين يوقفونه لمساعدة ورعاية الفقيرات والمطلقات اللاتي يعاني رُعاتهن من الفقر المدقع، ولا تصح عليهن الزكاة عملاً برأي بعض الفقهاء.
- وقف حَمَام مكة.. وهو ما كانت توقف من أراضٍ زراعية تُزرع بالحبوب التي كان يتم نقلها إلى مكة المكرمة لإطعام الحمام في الحرم المكي.. حتى لا تجوع أو تهاجر من تلك البيئة الصحراوية.
إن وقفيات اليمانيين كثيرة ومتنوعة، تحتاج إلى دراسة منهجية مستفيضة تغوص في قيم وأخلاق وثقافة هذا الشعب الذي جاءت مستجدات الحياة والعصر لتسلبه الكثير من الإيجابيات ومنها التكافل والتسامح، ومشاعر الأخُوَّة في الدين والمواطنة والإنسانية، وفي ذلك أحد عوامل خلو التاريخ اليمني من الصراع الديني والمذهبي والطائفي وغير ذلك مما شرعت قرونه الشيطانية تظهر هنا وهناك، عبر سلوكيات وممارسات بلغت تكفير المخالف في المذهب واستباحة المخالف في الرأي، والقتل -بدم بارد- كما تحكي جرائم الإرهاب.
نعرف أن الثروات ومصادرها تنوعت وتشعبت في عصرنا، إلاّ أن تسخيرها لما يخدم التكافل الإنساني فقد الكثير من قيم نشأ عليها مجتمعنا، إلى درجة العناء في البحث عمن يتقرب إلى الله بوقف قطعة أرض كمقبرة، وهيمنة طابع العمل السياسي والمصلحي على عمل الكثير من المؤسسات والجمعيات التي تنشأ باسم الخير.
ألم يكن تكافلنا الاجتماعي في ما مضى مجسداً لأنصع صفحات المحبة والتسامح ونُبل التعاون على البر والتقوى بين أفراد المجتمع الواحد؟ فما الذي جرى ليتحول الأمر من سمو التكافل بتلكم الصورة الرائعة، وفي المجالات الإنسانية المشار إليها بما في ذلك العطف على فقير يهودي إلى انحدار استباحة دم المخالف في المذهب والفكر..؟!!
شيء من الشعر:
تعلَّم من المؤمنين
من الأنبياء
من المُرسلين السماحة دوماً
فلا يحمل الحقدَ قلبٌ تسامت رؤاه
لنحيا الحياة
كما شاءها من أتى رحمةً، وسَلَكْنَا خُطاه
سلاماً، وئاماً
أخُوَّة أفئدة تلتقي
عند غاية إيمانِ واحدةٍ
في الصلاة