أثناء خروجهما من الخيمة حيث اللقاء الشهير بين الرئيسين إبراهيم الحمدي وسالم ربيع علي، قال سالمين للحمدي «صنعاء العاصمة وأنا الرئيس أو أنت الرئيس والعاصمة عدن» وعلّق الحمدي «ليست مشكلة، عدن عاصمة وأنت الرئيس.. المهم أن نبني دولة مؤسسات عصرية».
أدرك المتجمعون في الخارج - وبينهم غير أعضاء الوفدين جموع قدمت إلى المكان بالحماس أو بالرغبة بالاستطلاع- أن وراء هذا الحديث اتفاقاً على موضوع الوحدة وضرورة تحريك عجلتها على طريق واضح، بدا أن الرئيسين حددا أبعاده للوصول إليها في أقرب وقت وبأقل تكلفة.
دارت العجلة وتحرك المركب حتى كاد يصل المحطة قبل الأخيرة عشية الاحتفال بالذكرى الرابعة عشرة لثورة 14 أكتوبر. عندها باغتت القوة المتربصة باليمن إبراهيم الحمدي ونفذت انقلاب 11 أكتوبر الدموي ليقوم في صنعاء نظام فاشيٍ امتدت اقامته طويلاً في بركة الدم، وفي ظلاله الحمراء تبددت الآمال بوحدة حقيقية وساد يأس قاتل وخراب بلاحدود، فلم يكن ذلك العمل الوحشي سوى فاتحة مؤامرة لم نشهد نهايتها بعد، إذ أعقبه اغتيال واجهة الانقلاب أحمد الغشمي بحادث لم تكشف ملابساته إلى اليوم ولم تتأكد على وجه اليقين مسئولية سالمين عنه، ومع ذلك دفع حياته في حمى المؤامرة حيث صدرت التهمة في صنعاء ونفذ الإعدام في عدن.
اللافت أنه ساعة اغتيال الغشمي انتقل بالطائرة ضابط مغمور من المفرق إلى مقر قيادة الجيش متخطياً الرتب والمراكز العسكرية الأعلى وعابراً بسرعة الصاروخ فوق الطبقة السياسية ليستقر في القصر الجمهوري. ومنه افتتح عهده بإعدام الناصريين المعروفة علاقتهم الوثيقة بالحمدي وكان سبقها بالتسخين مع نظام عدن بالرغم من قتل الجاني المفترض واستتبعها بإضرام الحرب في 1979. ثم تلاحقت فصول المؤامرة على طول وعرض اليمن وظهرت مشاهد لها بالجنوب من إزاحة عبدالفتاح اسماعيل إلى مأساة يناير 86 حتى دخل نظام عدن الوحدة في ظرف غير مواتٍ لبناء ما اسماها إبراهيم الحمدي دولة ومؤسسات عصرية.
من المهم التوقف قليلاً أمام الخاطرة التي لمعت في ذهن سالم ربيع علي بعد أن أنهى لقاءه التاريخي برفيقه وقالها وهو يغادر خيمة الاجتماع. إن بصيرته السياسية أطلت بتفكيره إلى أبعد من الركون بالثقة بإبراهيم الحمدي والاطمئنان إلى سلامة توجهه وصدق نواياه بأن الموضوع يتجاوز أشخاصاً إلى مستقبل بلد والنهوض بدولة، وقد فهم الحمدي المغزى. وإن بدت كلماته مجاملة- فإنها تشف عن اقتناع بأن الوحدة ينبغي أن تشكل اندماجاً تكون نتيجته حاصل ضرب بين مقدرات دولتين وليس التهاماً يفضي إلى حاصل كسر. تجلى هذا بتأكيده على دولة المؤسسات العصرية.
شيء من هذا لم يحدث في 30 نوفمبر 89. لقد ولد اتفاق «خدج» دخلته على عجل مزاج علي سالم البيض المتقلب. وحدة فورية ثم ماذا بعد.
أنجز الاتفاق كيفما اتفق، والأحرى كيفما راود الهوى علي عبدالله صالح، الرئاسة له والعاصمة صنعاء وإذن فالدولة القادمة كيان مهصور بين أنياب القبائل وفي رأسها العقل الذي يوجه الأوامر بالأشداق تفتح وتمضغ وتبتلع.
ليست الرئاسة والعاطفة وحدهما دليلي ذوبان سيادة في أخرى بل العملة أيضاً حتى انفتحت الشهية على آخرها واشتد النهم، وإلا فماذا تسمى عملية إلغاء شركة الطيران «اليمدا» وتسليم أصولها وسائر ممتلكاتها للخطوط الجوية اليمنية؟ والأولى مملوكة للدولة بكاملها والثانية نصفها قطاع مختلط ونصفها الآخر في ملك العربية السعودية، ولا تغيب شبهة الفساد حيث تلحق اليمدا باليمنية دون أن تتغير حصص الملكية بين اليمن والسعودية.
ويشتد النهم وتفتح موجة التخصيص نوافذ وأبواباً إلى الحدائق المثمرة التي أنبتها الشعب ورواها من عرقه فيدخل أباطرة الفساد بالإتيان على مؤسسات القطاع العام وأكثرها في الجنوب حيث الاقتصاد الموجه وضع الثروة في ملكية الشعب، ولا يعدم المواطنون حقهم في التملك فقط إنما يخسرون وظائفهم وقوت يومهم. وسوى العاطلين في القطاع العام سحقت الكاسحات والجرافات الموظفين في جهاز الدولة والمؤسسة العسكرية والسلك الدبلوماسي.
كانت حرباً شاملة نفذ لها بعمل عسكري مكثف صيف 94 وصاحبتها أعمال حربية في كل الربوع، وتغير المناخ من شوق مؤرق للوحدة إلى عزوف وكفران بها.
هكذا نشأت نوازع الانفصال وتغذت من اللعاب القذر الذي أثارته الأفواه الشرهة لمن أدمنوا العيش في كهوف العشيرة والقبيلة لا يغادرونها إلى الفضاء الفسيح إلا ضواري تفترس وتأكل، وقد تكتفي في بعض الأوقات بامتصاص الدماء وتترك الضحايا جثثاً إلى حياة تنبض أو روح ترف. هؤلاء هم الذين يبلون في خدمة الطاغوت حتى إذا ما جفت عروقهم انهال عليهم إعلامه ونعتهم بأقذع الصفات.
الآن، ومن أجل إفشال العملية السياسية وإدامة الفوضى يحارب المقيمون في الكهوف مساعي إعادة بناء دولة الوحدة على أسس جديدة تضمن توازن المصالح. لقد اهتدت العقول إلى أن الفيدرالية توفر ضمانات استمرار البلد موحداً يزدهر فيه الرخاء ويتحقق التعايش، لكن صناع الانفصال يشهرون باسم الوحدة بنادقهم في وجوه المتحاورين، يرفضون الاعتراف بحق الجنوبيين، بحق الشعب كله بحياة كريمة، بل هم لا يعترفون بعد كل هذا البلاء بوجود شيء اسمه القضية الجنوبية. وإذ يتحدثون باسم الوحدة فإنهم يريدون تشطير الجنوب، وفي مشروعهم بتكوين الاتحاد من ستة أقاليم لا يصممون كيانات متداخلة بينما كان شطرا اليمن وإنما يبقون على الجنوب وحدة ولكن بإقليمين، ويحتفظون بالشمال موزعة في أربعة أقاليم.
وليس من أحد ينكر أن من أهم إنجازات الجبهة القومية توحيد 22 دويلة وأهمها على الاطلاق إدماج حضرموت والمهرة وشبوة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقاً.
لقد جاءت ما أسميت بالهبة الحضرمية في سياق الرغبة في فصل هذه المنطقة، ولم يكن صناعها وجوهاً قبلية من حضرموت فقط مدعومة من قوى إقليمية تسعى لفصل هذا الجزء الحيوي من اليمن، إذ كان معهم هؤلاء الانفصاليون بصنعاء وما حولها. والحق أقول أن الرئيس عبدربه منصور هادي تصرف بحكمة بإحباط المخطط، وأحسب أنه مطالب بالسياق ذاته أن ينظر إلى خطورة الأمر فيما يثار من ملاحظات على الوثيقة التي أسماها الانفصاليون بوثيقة بن عمر.
ثمة أسانيد مشروع الحزب الاشتراكي حول الأقاليم تستحق الاهتمام. وثمة ملاحظات في التنظيم الناصري جديرة بالدراسة. وأما هجوم المؤتمر الشعبي فلا يقوم على أساس كما أن موافقة الاصلاح بلا تحفظ وراءها علامات استفهام.
وأظن الرئيس هادي يأبه إلى أن الاصلاح يريد ثمناً ويخفي مطالب ذلك أنه يعرف بخبرته في علاقاتهم بالرئيس السابق أنهم كانوا يمحضونه التأييد كي يدفعوه إلى السقوط من حالق.
لقد أحسن هادي عندما لم يجر الجيش إلى مستنقع أكان في حضرموت أو دماج، لكن المشلكة أن المستنقعات كثيرة والمطبات بلا حصر والرجل يواجه كل الميراث الثقيل بمخزون من الحكمة كبير، على أن عبور هذا المنزلق التاريخي الحاد لا يقدر عليه رجل بمفرده مهما أوتي من الحكمة والعزم بل يستدعي جهود القوى الوطنية كلها. وأعني القوى الوطنية الحقيقية ليس غيرها وليس بعدها ولا قبلها.