ليس هناك بلد تزدهر فيها المؤامرات كاليمن، وسبب ذلك توفر المناخ الذي يساعد على ذلك. هل انا أؤيد نظرية المؤامرة بكل سفسطتها؟ لا أظن، ما قصدته لا يعني التأويل الجاهز والدائم لوجود تآمر وراء كل حدث، وهو التأويل الذي يفترضه الوعي الشعبي والسياسي اليمني. فكثيراً ما اعتمدت التيارات السياسية والنخب المثقفة، هذا النوع من التأويل للأحداث. وبالنسبة لتيار كالحوثي يفترض وراء أي حدث، وجود المخابرات الامريكية والاسرائيلية، حتى في اغتيال عناصره، يتجاهل الممكنات الأكثر وضوحاً، مثل عدوه المباشر ويتحدث عن مؤامرة صهيو-امريكية. وكأنه يحاول وراثة هذا العداء للغرب الذي حمل رايته اليسار في الماضي. وهذا بالضبط ما افترضه الخميني لصناعة توتر عام يكون دائماً هو القادر على ضبطه والتلاعب به كما يريد.
في الخطاب الاسلامي توفرت صورة وهمية حول نظرية المؤامرة على الاسلام، والأنظمة ذات الشوفينيات الوطنية تجعل المؤامرة على الوطن يافطة عريضة تمارس من ورائها كل استبدادها. في الواقع كل ذلك، الدين، الوطن، أو أي شيء مثلاً الثورة، يمكن ان يكون تحت ظل تأويل المؤامرة، ملكية خاصة لقلة تستفرد بالحكم، أو قلة تستفرد بالفتوى الدينية. واحدة من الاشكال المخزية في التاريخ اليمني، فتوى قالها الإمام المتوكل اسماعيل القاسم، اذ افترض اليمن ارضاً خراجية، وبما ان الشعب مسلم، فقد وضعهم تحت تصنيف كفار تأويل. وهكذا تم استباحة اليمن باسم السلطة الدينية. لا أعرف إن كانت تلك التخاطرات من الماضي على علاقة بما يحدث اليوم، إلا ان الاستباحة اليوم حاضرة من مفردات أخرى. فبما أنه لا يمكن حضور هذا النوع من الفتوى، فالاستباحة للوطن تتم بفتوى أو بدون فتوى. وإن لم تحضر الفتوى الدينية حضرت فتاوى سياسية وأخرى جهوية. لكن لنعتبر ان اليمن لم تعد ارضاً خراجية، فبما نفسر هذا النوع من الفساد. لنقل إن المختلف في فساد اليوم، أننا نعرف السياسيين الفاسدين بأنهم لصوص ببساطة، دون أي امتياز ديني. فبالفتوى الدينية يصعب اعطاء الاشياء حقيقتها من الاسماء. فاللصوصية تحت مظلة الإمام، او عمامة شيخ الدين، تظلل الوعي البسيط للمجتمع، وتحرم ملامسة أي شأن عام كما هو.
مع ذلك، لا يبدو انا ذاهب لتفسير لماذا اليمن هو الاكثر عرضة للتآمر. والسبب الاستطراد الممل. لكن ماذا يحدث عندما يتم تفريغ الوطن من معناه تحت مظلة الدين. عندما تحدثت عن التآمر، فأنا اتحدث كذلك عن الوعي العام، القادر على تفريغ اليمن كمجتمع وبلد، من هويته الحقيقية، إما بظواهر دينية او لاعتبارات تقليدية. وذات يوم تحدثت عن وثنية المجتمع، بما اقصده انها وثنية التمسك بالقيم البالية. كثير من الظواهر هنا في اليمن بحاجة لتفسيرات عميقة بعيداً عن المسلمات الجاهزة. فاليمني يشبه الشخص الذي لا يرى انه يمتلك شيئاً، ويفتخر بما يمتلكه صاحبه، فبعض الحوثيين يفتخرون بوهم ما تمتلكه ايران، والاصلاحيين تفاخروا بالسعودية لفترة، ثم بتركيا وكذلك بباكستان وبوهم العصي التي تسقط طائرات. وما حدث ان اليمن دائماً عرضة للتفريغ والانتهاك. فهي ارض خراجية بطريقة غير مباشرة لمن يمتلك حكمها، انها رواسب ملتصقة كدهون غير قابلة للزوال.
لذا عندما يتم تفريغ الوطن من هويته، ينسلخ من حاضره ومن المستقبل ايضاً، وما يبقى من الماضي هو تلك القشرة الصدئة. افغانستان انسلخت من هويتها فاستفاقت الهويات الصغيرة، وعادت ككهف منسي منذ 500 عام. قبل 50 عاماً، أي قبل ثورة سبتمبر العظيمة، كانت اليمن ندبة في الكرة الارضية تعود لكابوس القرن العاشر الميلادي. واليوم يمكن ان تنسحب لدفعة هائلة خلقتها سبتمبر، وإن لم تجعلها بلداً عصرياً فقد دفعتها قرون والحقتها بالعالم، على الاقل فرضت سؤال ما إن كنا حقاً ننتمي لهذا العصر وهو يحتمل إجابة جاهزة للنفي، لكن أن يختفي السؤال فسيعني شكلاً مروعاً للواقع.
اليمن ارض المؤامرات، لأنها مشبعة بكل ظواهره، يتم الهجوم على باص عسكري يتبع سلاح الطيران اليمني، تدور ظواهر الحروب لتروي عطش اسياد الحروب. تحضر الرهانات الصغيرة في كل ركن. أما اليمن فيبدو هو الشيء غير الحاضر في ذهن اليمنيين.