شهد العالم العربي حدثاً زلزالياً تمثّل في الربيع العربي، ومحتواه أن الجماهير العربية باشرت احتجاجاتها طلباً في تغيير الأنظمة ورغبة في الحرية والنمو، ولم تتمكن السلطات القائمة من محاصرة الجماهير نفسياً وإعلامياً بالنظر إلى توافر وسائل اتصال ونشر للأخبار والصور تتجاوز المؤسسات الإعلامية الرسمية، وكان الجيل الجديد من الشباب أكثر فاعلية وقدرة على تنظيم المسيرات والاعتصامات والاحتجاجات، وكان التنسيق بين الملايين منهم يتم عبر شبكات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر وسكايب وتانجو وفايبر، بالإضافة إلى المراسلات الشخصية عبر البريد الالكتروني، لم تقف المسألة عند هذا الحد، بل باشر المعتصمون في ساحات المدن العربية الرئيسة إنتاجاً فنياً ميدانياً، ونقلوه إلى شبكات التواصل الاجتماعي، كما لوحظ تفاعل الفضائيات العربية مع تلك النشاطات، حتى إن نشرات الأخبار الرئيسة في القنوات الإخبارية تعاملت مع تلك المواد المصوّرة المرسلة من شباب الساحات ونشرتها على نطاق واسع، وخلال تلك الفترة نشأت حساسية جديدة في التلقي عند المشاهدين والمستمعين، فقد زادت مصداقية المواد المرسلة مباشرة من ساحات الاعتصام، وبرزت مواهب فنية في الغناء والرسم والمسرح الشعبي، وكانت تقنيات الانترنت كبيرة الأهمية في نقل رسائل المحتجّين وهواجسهم وهمومهم.
لقد لعبت الميديا العصرية دوراً كبيراً في نقل رسائل المحتجين العرب إلى كل أرجاء العالم، كما ثبت عجز القنوات الإعلامية الرسمية أمام سطوة إعلام الوسائط المتعددة.
هذا المشهد يتناقض تماماً مع ما كان عليه الحال قبل أربعة عقود من الزمن؛ عندما كان الإعلام الرسمي سيد الموقف، وكان بوسع الأنظمة بث وتعميم ما يرضيها، وإخفاء ما لا يرضيها، كما أن الجماهير خضعت لتزييف الحقائق لأنها كانت مرتهنة للقنوات الإعلامية الرسمية، سواء التلفزيونية أم الإذاعية أو الصحفية.
لقد فتح الربيع العربي سؤالاً كبيراً أمام إعلام العصر، وأثبت أن عالم اليوم يختلف تماماً عن عالم الأمس، وأن الدول العربية لا تستطيع مواصلة السير على درب التعتيم والتضليل والتزييف، وقد ذهب أغلب المراقبين إلى القول إن تكنولوجيا الوسائط الرقمية المتعددة كان لها دور حاسم في تحقيق ذلك الانقلاب الكبير في المنطقة العربية.
تلك المحطات التي أسلفنا الحديث عنها ليست نهاية المطاف، فالتكنولوجيا الرقمية تتطور بوتيرة صاعدة، ووسائل الاتصال والإعلام الفردي تتزايد يوماً بعد يوم، ولهذا ليس أمام النظام السياسي العصري من خيار سوى الحرية الشخصية المقرونة بالمسؤولية، والنظام العربي تحديداً مطالب باستيعاب هذه الرسالة.