الروائي الأمريكي آرسنت همنجواي عاش حياةً صعبة، حيث اشتغل مراسلاً صحفياً، وخاض غمار الحرب العالمية الأولى، وتداعت به الأيام ليرتقي مع أميز اجتراح في حياته بعد أن قرّر التفرّغ تماماً للكتابة، وكان بذلك القرار في قمة الشجاعة الأدبية والقدرة على التخلِّي الحُر عن إكراهات المادة ومقتضياتها القاتلة للزمن الإبداعي الثمين.
كان الروائي والقاص الفريد همنجواي من المقتدرين على شَعْرَنة النثر، ونثر الشعر، وفي كامل متونه السردية الملحمية نلاحظ تلك الغنائية اللغوية الداخلية العامرة بالصور والأوصاف الَّلماحة والاستطرادات الإنشائية المُسيَّجة بالمحاصرة الجمالية والإدراكية والتداعيات الذهنية، وفي أُفق آخر نلاحظ ذلك الاشتغال الصبور العسير على النص، ولكن بانزياحات تخييلية لا تُخطئها العين الباصرة والأُذن السامعة.
يقال بحق: إن كل كاتب للسرد يكتب نفسه، وأن كتابة الكاتب ليست إلا نصّاً واحداً مهما تنوَّعت الموضوعات وتعدّدت الأساليب، وهذا واضح جلي في حالة همنجواي الذي كتب نصّاً واحداً، واستجلى من تضاعيف بيانه ومعارج تحوّلاته وفضاءات معانيه ما يجعلنا نستشعر العوالم الوجدانية المقرونة بالضَّنَى والعذاب، عناوينه الكبرى تشي بذلك، ولنا أن نستعير ضمناً بعضاً من تلك العناوين التي تعبّر عن نفسها: «العجوز والبحر، وداعاً للسلاح، لمن تُقرع الأجراس، وليمة متنقلة، مكان نظيف جيّد الإضاءة».
هذه العناوين العامرة بالإيحاءت الهمنجوانية تخرج من أعطاف كتابة بسيطة ومتميّزة، كلمتان تُلخّصان نص السارد العليم، وتجعل من ثنائية الدقة والاختزال قيمة نهائية في منتجه.
يقول همنجواي: إذا عزمت على إدراك مثابة الكتابة القصيرة، فاكتب واقفاً.
ويقول أيضاً: يلزمك سنتان لتعلُّم الكلام، وخمسين عاماً لتعلُّم الصمت.
تلك الأقوال تذكّرنا بما ذهب إليه الرائي محمد بن عبدالجبار النفري الذي قال أيضاً: إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.
Omaraziz105@gmail.com