خلال منجزه الكتابي البالغ 11 مؤلفاً تميَّز الروائي الأمريكي آرنست همنجواي بلغته البسيطة الموحية التي أسلفنا الإشارة إليها في كتابات الأمس وقبله، وبقدرته الفائقة على تقديم الصور المُكثَّفة في جُمل قصيرة، وبمنطقه الخوارزمي الرياضي المموسق بأبعاد المكان، وتحولات الطبيعة. ولعل أفضل درب لاستقراء أبعاده يُحيلنا للوقوف على رائعته الكبرى «العجوز والبحر».. تلك التي حيَّرت النقاد، وأعْجزت المترجمين، وفاضت بالمعاني الكبيرة النابعة من حقائق الحياة ومتوالياتها العصيَّة.
في العجوز والبحر.. هذه القصة الطويلة، والرواية القصيرة المتأبِّية على التجنيس النمطي، نتوقَّف أمام سردية شائكة، تستقيم على ديالوج ينتقل من حوار العجوز والولد الصغير إلى حوار الأنا مع الأنا، في شبه مونودراما سردية تنظر لجدل الحوار الذاتي مع الوجدان، بالترافق مع الحوار الافتراضي مع البحر والأسماك والكائنات المختلفة. هنالك حيث تتكسَّر الحواجز الوجودية والنفسية بين الكائنات الناطقة وغير الناطقة، وتظهر فيها الطبيعة في أسمى وأكثر أشكالها تعقيداً، وجمالاً ، ومفاجآت، من خلال البحر الكبير الذي يظل على مده وجزره الدهريين.
في هذا العمل يتحدث السارد عن تنكُّبات الأيام، ومشقَّات الحياة ، وأوهام النصر. كل ذلك في سردية تستقيم على تجربة بحار مُسِن، يذهب لاصطياد سمكة كبيرة وسط البحر، وعلى مدى ساعات صبره المديد في يومين كاملين يقع على فريسة عصيَّة المنال، ويكافح لاصطيادها يومين إضافيين، مستعيناً بطاقة الصبر والدأب والمثابرة، وحالما ينال منها يكتشف أنه أمام أكبر وأجمل سمكة رآها في حياته، وأن تلك السمكة أطول وأثقل من قاربه الصغير، وفي تلك اللحظة الكاشفة للحقيقة الخرافية، يستدعي كامل طاقاته الذهنية، وخبراته البحرية، ليربط السمكة العملاقة بالقارب، مُمنياً نفسه بظفر معنوي ومادي خارق للعادة. لكن السهم القاتل الذي استخدمه وغرسه في قلب السمكة الكبيرة كان بمثابة سهم ارتد عليه، فقد استدعت الدماء النازفة فيالق من أسماك القرش المتعطشة للدماء وللحوم، وبدأت ملحمة الموت الثاني لجسد السمكة، من خلال النهش المُفترس للقروش، وصولاً إلى ذلك المنظر السريالي الذي شاهده الناس في الساحل. قارب مقرون بهيكل عظمي لأكبر وأجمل سمكة اصطادها شيخ الوقت.
Omaraziz105@gmail.com