منذ فتحت عينيّ على الدنيا وأنا أسمع عن الحرب هنا وهناك وعشت بعضها في قريتي الواقعة بين تعز و إب والتي كانت تدور بين الجبهة الديمقراطية الجناح المسلّح للحزب الاشتراكي في الشمال والجبهة الإسلامية الجناح المسلّح لجماعة الإخوان المسلمين كانت تدور المعارك على جبال ممتلئة بالمدرجات الزراعية والورود والخضرة والجمال، حينما زرتُ سويسراً تأكدت أن جمال هذه الجبال لا يضاهيها أي مكان في العالم.
ومع ذلك لم يكن هذا الجمال ليتحرك داخل المقاتلين حملة السلاح ومع مطلع الثمانينيات كان هذا العقد مختلفاً عما سبقه، حيث شهدت المرحلة مصالحة وطنية وعفواً عاماً عن المقاتلين، وعندما وصلنا إلى العام 86 كانت الصدمة الكبرى، ساعتها فتحنا أعيننا على مجازر في الشطر الجنوبي من الوطن بين القبائل الماركسية هناك وفي هذه المحطة وخلال أقل من عشرين عاماً كانت اليمن بشطريها الشمالي والجنوبي قد فقدت أربعة رؤساء اغتيالاً وأربعة نفياً إلى الخارج، وبعد الحروب التي خاضها النظامان في الشمال والجنوب كانت هناك حروب أخرى للاستنزاف ومن بعدها حرب 94 ومعها بدأ الصراع على الوحدة والانفصال.
واليوم يبدو التاريخ أنه قد مرّ بدورة كاملة استغرقت اثنين وخمسين عاماً منذ قيام ثورة سبتمبر ولد خلالها ملايين من اليمنيين، لتأتي فوضى عام 2011م التي كانت سبباً فيما جرى من حروب أدت إلى سقوط الأطراف التي كانت سبباً في هذه الفوضى حدث انقسام حاد عمن يتحمل مسئولية هذه الفوضى.
ولست بحاجة إلى القول: إن الأطراف جميعها تعد مسئولة عما جرى فهي لم تتوقف أمام التاريخ بل ذهبت لتبعثره وتوزّع الاتهامات هنا وهناك، والمتوقف أمام التاريخ منذ ثورة سبتمبر يجد أن اليمن مزّقت نفسها بين الماضي والحاضر وخلال تلك المرحلة صعد البعض إلى قمة السماء ثم هبطوا إلى باطن الأرض وخلال هذه المراحل انقسمت البلاد بين وطنيين وخونة، وعظماء وسفلة وزمرة وطغمة وشماليين وجنوبيين وثوار وبلاطجة وحوثيين وإصلاحيين.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل بعد كل هذا سنصل إلى النهاية حتى نتمكن من بناء الدولة اليمنية وبناء اقتصادها؟، فالمشهد الذي جرى خلال الأيام الماضية كان صادماً، حيث تهاوت العاصمة صنعاء كما تتهاوى أوراق الشجر في فصل الخريف، فما جرى يتعدى بكثير مجرد جماعة تواجه الدولة وتنفتح أمامها كل الأبواب بهذه السهولة، وربما ما جرى يؤكد ما كنا قد ذهبنا إليه منذ فترة أن هناك رغبة للتخلّص من هذين الطرفين في جرّهما إلى صراع ربما لن ينتهي وعلى هامش ذلك تتحقق أجندة أخرى فيما يتعلق بشكل النظام القادم.
وأمام هذا المشهد لا يوجد وقت أمام القوى السياسية في إضاعة الفرصة حتى لا تنفلت الأمور، ومطلوب الآن مصالحة وطنية، فقد باتت هذه المصالحة ضرورية، صحيح قد تكون القوى السياسية قد أخفقت خلال المرحلة الماضية، فقد صعدت في بعض مراحل التاريخ وهبطت في البعض الآخر.
وعلينا أن نقول: إن المطلوب اليوم هو الخروج من مأزق التنمية المتعثر إلى آفاق التنمية المبنية على الإنسان وعلى التنمية المستدامة، ما تحتاجه هذه القوى هو ترك التاريخ للمؤرخين والدارسين والباحثين والتفرّغ إلى تعبئة الموارد البشرية والمادية لبناء تاريخ يتعلق في المستقبل، علينا ألا نختلف حول التاريخ حتى نتمكن من صناعة المستقبل.
نحتاج إلى مصالحة وطنية تمكّن القوى السياسية من تعبئة الموارد وتجديد الجهاز الإداري من خلال تحديد كيفيات اختيار الموظف العام.
على الجميع ألا يفتحوا صناديق تم إغلاقها منذ 52 عاماً، لأن ما سيخرج منها أسرار ستصير لعنات واللعنات ستصير إهانات.