ابتدأ الرئيس الأمريكي باراك أوباما سيرته الذاتية في قيادة القوة الأعظم عالمياً, من جائزة نوبل للسلام, التي استحقها تقديراً لوعوده في وقف سياسة الحروب وسحب جيوش الولايات المتحدة من العراق وأفغانستان, وإغلاق معتقل جوانتانامو واعتماد استراتيجية جديدة في حروب واشنطن ضد مسمّى الإرهاب, فهل كان أوباما في سجل ست سنوات من قيادة أمريكا رجل السلام؟ وهل حقاً كان أوباما متردداً في سياساته تجاه قضايا وأزمات الوطن العربي وفي خياراته تجاه الأزمة السورية؟ وهل كان منكفئاً بالدور الأمريكي عن المنطقة العربية والعالم؟.
يستند الذين يقيمون أداء وسياسات إدارة أوباما على تردده في قرار الحرب المباشرة ضد سوريا, وعجزها في مواجهة حق النقض المزدوج لروسيا والصين في مجلس الأمن الدولي, لكن هؤلاء يتجاهلون في استنتاج ما يرونه تردداً وانكفاءً من إدارة أوباما أمرين هما: الأول استراتيجيات السياسة الخارجية لواشنطن, ومؤسسية صناعة القرار التي لا مجال فيها للاجتهاد الفردي, والأمر الآخر, التغيير الجذري للوسائل والأساليب التي اعتمدتها إدارة أوباما لتنفيذ استراتيجية السياسة الخارجية للولايات المتحدة, وتحديداً الاستراتيجية الجديدة في مفهوم واستخدام القوة العسكرية.
وقف الرئيس باراك أوباما, لحظة مقتل العقيد معمر القذافي مفاخراً بقوله, إن الجيش أنجز المهمة من دون أن يخسر جندياً واحداً, وهذا ما يكشف لنا الفرق يبن انتصار حروب رجل السلام أوباما, وسلفه جورج بوش الابن, الذي دمّر سمعة الولايات المتحدة بغزو العراق ضداً على الشرعية الدولية وأرهق الخزانة الأمريكية بضخامة الخسائر في النفقات والعتاد, وفي الأفراد والأخلاق, بينما تخلّص أوباما من ديكتاتور عربي آخر وعضو في محور الشر بمكاسب قانونية وأخلاقية ومادية وبدون أي خسارة تُذكر.
وفي سوريا, يواصل أوباما تدمير آخر عضو عربي في محور الشر دون أن يخسر سمعة بلاده أو يضعف قوتها الاقتصادية والعسكرية, أو يضحّي بجنودها في مستنقع يهدد أمن الكيان الصهيوني والمصالح الحيوية لواشنطن, وقد غادر جيشه العراق, لكن ما لبث أن عاد بقوة مؤمنة من الخسارة, وقدرة متمكنة من الفعل العسكري في العراق وسوريا, بعد أن نجح في صناعة تنظيمات الجهاد الإرهابي ثم استخدمها في سوريا والعراق, وها هو يسعى للتخلص منها وفق خطة مزمنة بثلاث سنوات تجعله منتصراً عند مغادرته البيت الأبيض, ونظيفاً من أدران معتقل جوانتانامو التي صنعتها سياسات من سبقوه في صناعة إرهاب القاعدة, وأخطاء سوء استخدمها والتخلّص منها.
خلافاً لمبادئ مستخدمة من قبل إدارات أمريكية سابقة, تعتمد على القوة الخشنة في السياسة الخارجية أو القوة الناعمة, فإن إدارة أوباما جمعت بين المبدأين في مبدأ واحد جديد هو مفهوم القوة الذكية, والذي يترجم عسكرياً بـ “الحروب النظيفة” حيث يقتصر عمل القوة المسلّحة على الغارات الجوية و الصورايخ بغير قوة برية, وهذا ما كان نموذج العدوان الأطلسي على ليبيا, حيث مرتزقة الجهاد والمعارضة المسلّحة للشهيد القذافي تكمل مهمة العدوان الأطلسي على الأرض.
وفي ليبيا, نفذت الجماعات المسلحة كل المهام التي مارسها الجيش الأمريكي في العراق, وسودت سجل القيم الأمريكية بفظائع القتل وفضائح الاعتقال والتعذيب وانتهاك القانون الدولي بحق الأسرى ومحاكمة الرئيس صدام حسين وإعدامه خلافاً للشرعية الدولية, وفي ليبيا تكفل أتباع الأطلسي من الجماعات المسلّحة بتدمير الدولة الليبية وتمزيق وحدتها الوطنية, وإغراقها في حرب أهلية, بدون الحاجة إلى وصاية بول بريمر السياسية والعسكرية التي دمرت الدولة العراقية ومزقتها قومياً وطائفياً.
ورثت إدارة أوباما من جورج بوش الابن “شرق أوسط” يتقاسم قوته السياسية محوران هما: محور الممانعة والمقاومة, المؤثر بقوة في ميزان الصراع العربي – الصهيوني, والمكون من سوريا وحزب الله والمقاومة الفلسطينية مسنودة بإيران ومدعومة بكل من ليبيا والجزائر واليمن والسودان, ومحور الاعتدال, العاجز عن فرض خياره الاستراتيجي للسلام مع إسرائيل والمكون من بقية الأقطار العربية, وسيغادر أوباما البيت الأبيض, وقد ترك لخلفه “شرقاً أوسطاً جديداً” الأقوياء فيه هم أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة, ولا مكان فيه لممانعة أو مقاومة, حتى مع بقاء سوريا ونظامها القائم, ذلك أن أكبر حركة للمقاومة في فلسطين وهي حماس قد خرجت نهائياً من محور المقاومة, بينما سيبقى حزب الله مشغولاً عن إسرائيل بقوى التطرّف التكفيري, في حين ستخرج سوريا من العدوان ضعيفة ومجزأة, في ظل توتر طائفي يقيد حركة إيران ودورها.
أوقفت إدارة أوباما انهيار الاقتصاد الأمريكي الذي أنهكته القوة الخشنة وحروبها المثقلة بالخسائر والكلفة الباهظة, ثم نقلت هذه الأزمة إلى منطقة اليورو, لتنجح أخيراً في وضع الاتحاد الأوروبي في مواجهة الاتحاد الروسي, وورطتهما في حرب الحصار الاقتصادي المتبادل, بعد أن وضعت القوة العسكرية للأطلسي على الحدود الروسية, وهكذا هيأت إدارة أوباما كل الظروف المطلوبة لمن سيأتي بعدها, للتفرغ لآسيا, بعد أن استكملت إدارة أوباما وضع يدها على المنطقة العربية, وأبعدت عنها خطر نمو القوتين الأوروبية والروسية بوضعهما في حصار اقتصادي وتماس عسكري.
من جهة أخرى, لم تتوقف حروب واشنطن ضد مسمى “الإرهاب” وإذا كان أوباما قد أخل بعهده فيما يخص إغلاق معسكر غوانتانامو, فإنه قد أغلق باب المعتقل في وجه قادمين جدد, فأولاً قرّر قتل كل متهم بالإرهاب عبر طائرات بدون طيار, نجحت في قتل ما يزيد عن 4500 عنصر من عناصر القاعدة في باكستان ومناطق أخرى, وثانياً نجحت إدارة أوباما في قتل قيادات كبرى للجماعات الإرهابية, أبرزها مؤسس وقائد تنظيم القاعدة أسامة بن لادن, ثم أنور العولقي, ومؤخراً قائد تنظيم الشباب في الصومال, وثالثاً, حرصت على التخلص المبكر من تبعات حشدها لمرتزقة الجهاد في سوريا, من خلال تدشين حرب جديدة ضد تنظيمات إرهابية في سوريا والعراق تحت غطاء الشرعية الدولية, ومن خلال تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة.
لا شك أن هذه النجاحات مصحوبة بإخفاقات, ومحكومة بتعقيدات لن تحول دون فشلها الجزئي والكلي, خصوصاً في سياق الصراع العربي الصهيوني, ذلك أن مصالح الولايات المتحدة نفسها قبل غيرها تستدعي قدراً من الاستقرار يعقب الفوضى القائمة الآن, بالصراعات البينية في الأقطار العربية على خليفة طائفية أو عرقية, وهذا ما يفرض على واشنطن تسوية لهذه الصراعات تضمن لها قدراً من الهيمنة وتوفر لها مناخاً ملائماً للاستثمار والمنافسة, خاصة مع تنامي حاجتها إلى التكامل بين النمو الاقتصادي في الشرق الأقصى ونفط الشرق الأوسط.
غير أن هذه المقالة معنية بدحض الرأي القائل بأن إدارة أوباما تقدّم نوعاً من التراجع وربما الانكفاء والانهزام في مواجهة التحديات التي تفرضها السياسة الروسية في أوكرانيا وسوريا, وتأكيد أن إدارة أوباما تخوض حروباً نظيفة وتحقق مكاسب دون أن تتكلف شيئاً, وتقلل أكلاف السياسة الخارجية الأمريكية في تعزيز المكانة القيادية للولايات المتحدة في العالم.
albadeel.c@gmail.com