التقاليد التاريخية العربية في النصوص التدوينية لم يكن الغرض منها مجرد التوثيق المقرون بالتوصيف والتصنيف للعوالم الحيوانية والنباتية فقط، بل ولمظاهر الطبيعة وتقلباتها أيضاً، حتى تجاوز ذلك المفهوم إلى مجرد الرصد الكرنولوجي إلى ما يمكن تسميته بالاستسبار الثقافي الأنتربوولوجي، القادم من استقراء الدلالات والمضامين المختلفة لتلك الكائنات المرصودة، وللنباتات المُصنَّفة والموصوفة، وفق قيمتها الغذائية والدوائية، وللجغرافيا المكانية الممتدة في علاقتها بالإنسان والكائنات، بل وللبشر من منظور خصالهم الجسدية، وطبائعهم المستمدة من البيئة، وأنماط النشاط الذي يمارسونه بناء على تلك البيئات، وما توفَّر فيها من ثقافة عمل، وتراكم خبرات، وعلاقات اجتماعية، ونظم للإدارة والتسيير والسيطرة والتحكُّم.
المنطقة الأكثر أهمية في هذا النمط من التدوين الحصري الراصد للتفاصيل يكمن في الفوائد الكبيرة الناجمة عن ذلك الرصد، وخاصة الفوائد الدوائية، وأنماط السلوك التي تقترح كيفية الاستفادة من الحيوانات، ولطابع البشر في علاقتها بالتصادمات الحميدة وغير الحميدة على مدى التاريخ.
ذلك أمرٌ رأيناه بسخاء كبير عن ابن خلدون، والبيروني، والجاحظ، وداؤود الأنطاكي، والدسوقي، وغيرهم من علماء التاريخ الثقافي الكبار، ممن أصَّلوا لمفهوم التدوين المنفتح على الثقافة العالمة، والرصد الانتربولوجي الرفيع، وهو ما نرى فيه قيمة استثنائية إلى يومنا هذا.
من هنا كان اختيار كتاب «الطيور في بلاد العرب» لصاحبه حسن موسى النميري، ضمن مصفوفة إصدارت الشارقة عاصمة الثقافة الإسلامية؛ لاعتقادنا الراسخ بأن هذا النمط من التأليف الكرونولوجي النوعي لا يقف عن تخوم الوصف والتوصيف فحسب، بل يفتح باباً واسعاً للتوثيق من جهة، وللنظر في الأنماط وفوائدها وطبائعها من جهة أخرى، وللبحث في مكوناتها غير الظاهرة للعيان أيضاً، مما نحتاجه اليوم وغداً وبعد غد.
هذا النمط من التدوين المقرون بالانتربولوجيا المعرفية ليس جديداً على الجغرافيا الثقافية العالمية المعروفة، لكن العرب كان لهم باع وذراع في هذا الحقل الذي غادروه من أسف، منذ فترة طويلة.. فقد قدَّم العرب والمسلمون، وهم يتأسُّون بالتدوين الراصد.. قدموا نظرات سوسيولوجية، وأُخرى سيكولوجية، وثالثة ثقافية عامة، حتى أنهم أصبحوا من كبار مؤسسي «علم الإنسان» أو «الإنانسة»، انطلاقاً من المدونات الوصفية الدقيقة، وسيراً على درب تفاصيلها اللامتناهية، وصولاً إلى الاجتهاد العقلي والذوقي على ذات الدرب.
Omaraziz105@gmail.com