الثنائيات التي تنبجس من تضاعيف رواية محمد مهـدي حميـدة بعنـوان « امرأة خضراء» هي ثنائيات وجودية قاهرة، لأنها تترنَّح بين فكي الجبر والخيار.. وإلى القارئ الكريم هذا البيان العابر للمعنى:
أول ثنائية يلمسها القارئ تنبجس من المدينة والريف، وهي ثنائية إجرائية تلتصق بالمكانين المحددين.. لكن الإنسان السابح في الفضائين ينتمي للمكانين في آن واحد، فهو يحمل ذلك الحنين الجارف لما هو عليه الحال في الصعيد “البرَّاني” ، وهو في ذات الوقت يعيش في مدينة الكتل الخرسانية والقطارات العابرة، والسيارات الزاحفة. إنه يعيش حالتي الصعيد والقاهرة، لتنتظم في جوانياته المعاني المنبثقة من صفاء الريف وفراغاته المدهشة، بمقابل أنوار المدينة وإكراهاتها التي تجعل الناس يركضون بقدم واحدة، ويتبارون في حساب المسافات.. اتصالاً بتوقيع القدمين، ويلهثون وراء الحال والمآل، كما لو أنهم مسحورون.
هكذا تقع العَمَّة “كوثر” فريسة رهاناتها الماراتونية على العدِّ والتِّعداد، وعلى السير بقدم واحدة لقطع الشارع، وعلى التفنُّن في المناورة حول المكان المزدحم بالخلق، والباصات المنتشرة كديدان الحقول، وبالمقابل يقع الراوي في ذات المصيدة، حتى أنهما معأ يتموْضعان بعد حين في مستشفى معالجة أصحاب السيقان المكسورة المتضررة، وهنالك نتابع مع النص تلك القيم المشهدية البصرية الواصفة لحالة سريالية يُتقن الكاتب تقديمها، مستعيناً بذاكرته الفنية الجرافيكية، واسترسالاته الموشاة بالقيم اللونية التعبيرية، وملاحظاته لميزانسين المكان المُترع بالبياض، وهو أمر نلمس حضوره المتميز في تضاعيف الرواية، حيث الصور السريالية في أكثر من مكان على صفحات السردية.
ذلك التصوير لايتأسَّى به السارد العليم من باب الفذلكة الكتابية التشكيلية، بل من باب المُحايثة الدلالية لثنائية الواقع والحلم، كما ثنائية المعقول واللامعقول، وكذا ثنائية المرئي والمستتر.