عندما خرج مانديلا من سجنه لم يتقمَّص ثوب “الثعلب الناسك” بل باشر فض الاشتباكات الاجتماعية بينه وبين أقرب الناس إليه، فكان كأي إنسان طبيعي يتزوّج مرتين ويُطلّق مرتين ليستمر مع زوجة أخيرة ثالثة، وليقول للقاصي والداني إنه ليس قدّيساً؛ بل رجل من عامة الناس يتزوج ويُطلّق، يختلف ويأتلف ويمارس حياته الاعتيادية كبقية البشر.
التسامح والسماحة كانت لصيقة أيامه ولياليه، حتَّى إنه تولَّى دور الزعيم الروحي وهو لايزال مُصفّداً بأغلال السجن، حتى انخطف بسجاياه جموع المُحلِّقين حوله، وكانت الفئة القليلة من الإداريين والسجانين الذين رافقوه في رحلة السجن الأطول يسعدون بإلهاماته، مُعتبرين أنفسهم في عداد المحظوظين لقيامهم بالواجب العقابي تجاه مانديلا؛ ذلك الواجب الذي جعلهم قريبين من خِصاله الحميدة وإشاراته الرفيعة.
ظل مانديلا قابعاً في السجن لربع قرن وعام، لكنه ظل أيضاً مُتماسكاً بفرادة الطيبة، ومحرّك عوالمه الداخلية الخصبة، والرفض الثابت للرزايا، في ذات الوقت الذي تواصل فيه الحراك الشعبي الأُفقي المقرون بدعم دولي لمرئياته ومرئيات المؤتمر الوطني الأفريقي التي كانت تجد مداها على الأرض.
بعد حين قيَّض الله لجنوب أفريقيا زعامة بيضاء، تستوعب المعنى، وتقبض على المغزى العميق لرسالة مانديلا؛ يومها أقرّ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أن هذا النظام لا علاقة له بالسويَّة الإنسانية، وعليه أن يكُفَّ عن الوجود، وهكذا جاءت اللحظة الشجاعة للتنازل الحُر، لتثبت أن أقسى المحن وأكثرها بلاءً قد تتحوّل إلى انفراجة، ومناسبة لتقديم المثال الساطع على معنى الحرية والعدالة المساواة.
Omaraziz105@gmail.com