تلك هي عنوان حلقات صحفية سطرها جابرييل جارسيا ماركيز عطفاً على استنطاق صبور لبحَّار عاش عشرة أيام، عالقاً في البحر مع عوامته التي كانت وعاء لإنقاذه، بقدر ما كانت مسرحاً لدراما سردية تفصيلية جعلت القراء الكولومبيين يتابعون تلك اليوميات بشغف المُتحرِّقين شوقاً وانتظاراً، لمعرفة النتيجة. في هذا العمل سجل ماركيز تفاصيل التفاصيل في رحلة الأيام البحرية العشرة المرعبة، متداعياً مع حكاية البحار الذي كاد أن يكون غريقاً، بل إن ماركيز اعتبره غريقاً وهو لم يغرق، وكأنه يشير إلى أن محض الصدفة هي التي أنقذته. تالياً.. استغرق السارد في تقمُّص حالة الأنا المجبورة على مواجهة الموت في صروف البحر الممتد على مدى الغموض والزرقة والفراغ اللا نهائي، والتقلبات الجوية العاصفة، والملوحة والحيتان القاتلة.. ناهيك عن الجوع والظمأ الذي لا يرتوي بمياه البحر المالحة.
استطاع ماركيز في هذه الحكاية القيام باستعادات لمَّاحة لذكريات البحار، منذ أن قرر ركوب البحر مع آخرين، مستشعراً خطراً مداهماً، ولأول مرة، وغارقاً في هاجسه الميتافيزيقي الذي بدا مشابهاً لذات الشريط السينمائي الذي شاهده مساء يوم الشؤم ذاك، ومستسلماً لمصير خُطَّ في لوح القدر، دونما أمل في النجاة، لكنه كان الناجي الوحيد، ليحكي لنا معنى العزلة في بحر يموج بالموت المحلق، ولتنكشف في كامل القصة واقعة الغرق لسفينة بحرية عسكرية كولومبية استخدمت في التهريب، ومالت لتغرق بعد أن ناءت بحمولتها غير القانونية، فجن جنون العسكرتاريا الكولومبية الفاسدة، ليطاردوا كاتب الحلقات الصحفية جابرييل جارسيا ماركيز.. لكنه نجا بجلده، ليجد نفسه في العاصمة الفرنسية باريس، ولتبدأ التقاطاته المدهشة، منذ أن رأى بعينيه كيف يتم تقديم الخنازير المسلوخة في شوارع باريس، وقد اعتلت مؤخرتها ورود حمراء زاهية.
كانت مغادرته القسرية إلى باريس عاملاً هاماً في نتاجاته اللاحقة، وكتاباته التي ظلت حاضرة في أذهان القراء، وخاصة مجموعة القصص القصيرة التي ألهبت خيال النقاد، وفاضت بمدهشات العجائب والغرائب، وسجلت حقائق وجودية دامغة، حتى تلك التي تبدو مفارقة لكل مألوف، وأذكر هنا وعلى سبيل المثال لا الحصر حكايات «الغريق الجميل» و«الجثة المقدّسة» و«بائع التوابيت» و«جنازة الجدة الكبيرة» وغيرها من قصص تجمع بين التشويق إلى حد الاحتياط والمكاشفة ما فوق الواقعية إلى حد الواقعية الصاعقة.
Omaraziz105@gmail.com