لعل كتاب العلَّامة الإمام محمد بن محمد أبي حامد الغزالي بعنوان «المنقذ من الضلال»، نال من الاهتمام والعناية ما يفوق كثيراً من كتب الغزالي الإشكالية، وأبرزها موسوعته الضافية بعنوان «إحياء علوم الدين»، والتي تمثل أيقونة واسترجاعاً منهجياً دلالياً للمفاهيم الإسلامية حول الوجود والماوراء، وما يتعلق بهما من أحكام ونظرات واجتهادات.
كان “المنقذ من الضلال” وما زال يمثل محطة استثنائية في استجلاء الغزالي، لسبب بسيط وواضح يتعلق بكونه سيرة ذاتية إبداعية وفكرية مختصرة للإمام، ولعل الجوهر الأصيل في تلك المرويَّة التدوينية الشخصية، يكمن في تنقلات العالم العارف في شتَّى بحور المعرفة، فقد قرأ علوم البرهان اليوناني بصنوف ألوانها، كما تجوَّل في علوم الكلام من منابع التفسير، وحتى تداعيات التأويل الشاقة، وقارع الفلاسفة والمتفلسفين، فيما كان هو بذاته فيلسوفاً لا يُشق له غبار، ومارس التصوف العرفاني ليجد جواباً ناجزاً، غير قابل للتطبيق من طرف الذين لا يتخلَّون تماماً عن أسباب الدنيا وزخرفها .. لكن الأهم من هذا وذاك أن الكتاب انطوى على مكاشفة للذات الحائرة المُتغيِّرة المتحوِّلة المُترقِّية، صعوداً من أدنى لأعلى، كما أنه يُبين تواضع العارفين الرائين الذين لا يدَّعون ولا يقولون بالحقيقة المطلقة المغلقة.
في هذا الكتاب نلتقط التميمة الجوهرية في الرسالة الواضحة، والانتقالات الفكرية المُتسامية، ومعنى الغوص في أعماق الدلالات، التي يفيد منها القراء المعاصرون، ممن يحتاجون إلى رواسخ العلماء، ومآثر الناظرين، واجتراحات العارفين من أمثال أبي حامد الغزالي رحمه الله.
كتاب«المنقذ من الضلال» للغزالي سيمثل محطة تدشين أساسي لمطبوعات الشارقة عاصمة الثقافة الإسلامية للعام الجاري، لأنه يستحق وقفة خاصة في الظروف الراهنة، فالإمام الغزالي نموذج فريد للإبحار الأُفقي والرأسي في الفكر، كما أنه نموذج استثنائي في تقبُّل الرؤى المتعددة على قاعدة النظر الواسع لمختلف الزوايا، وتثمين ما يستحق التوقف ، كما أنه نموذج للوسطية والتسامح المقرون بثقافة عالمة، رسختها دربة التسليم بالحقائق الكلية، وإدراك معنى القضاء والقدر في أساس المنَّة التي منحها الله للبشر، وفي الكتاب أيضاً تعاميم ضمنية بأهمية أنساق المعارف والعلوم البرهانية وغير البرهانية، مما يسمح لنا بتأمل الروافع الدلالية المعنوية عند قامات تاريخنا الكبير.
Omaraziz105@gmail.com