عندما ورد مفهوم الاستخلاف في الأرض في القرآن الكريم، فإن هذا المفهوم الذي اقترن بآدم عليه السلام كان مشروطا ًبقواعد الجبر الإلهي الناظمة لميزان الكون والوجود والمجتمع، فالاستخلاف بهذا المعنى اقتضى العدل، والحكمة، والإنصاف، والتأمُّل، والتفكُّر، والتؤدة، وكان بمثابة رافعة أخلاقية لآدم عليه السلام، ومن يليه من أبنائه، ولم يكن مقروناً بمرجعية للحاكمية بمفهومها التاريخي الذي ورثناه، بل إنني أزعم أن مفهوم الخلافة التاريخي الإسلامي نشأ كنوع من المغايرة لمفهوم الحاكمية التي سادت امبراطوريتيْ كسرى الفارسية، وقيصر الرومانية، وهي كما نعرف كانت تستقيم على مرجعيات لحاكميات ملكية وراثية واضحة المعالم في استمرار السلطة الدنيوية في أساس السلالة الحاكمة، وليس في ذلك أدنى عيب، فهذه الملكيات والسلطنات السلالية كانت وما زالت وافرة الحضور في العالم إلى يومنا هذا، ثم إنها لم تقف عند الموروث التقليدي في الحاكميات الشاملة، بل تطورت لتناجز استحقاقات العصر المتغيرة، لتُصبح ملكيات وسلطنات دستورية تضع مسافة عاقلة بين الحاكمية التاريخية الفلكلورية، والتدوير المؤسسي لشؤون الدولة، كما يحدث في بريطانيا واسبانيا وهولندا وماليزيا، وعلى سبيل المثال لا الحصر.
كرَّس المسلمون بعد حوارية “سقيفة بني ساعدة” مفهوم الخلافة من خلال فكرة البيعة، وتعني الاجماع على اختيار خليفة للمسلمين، واستمرت هذه الفكرة بنواميس حصانتها الأولى خلال العهد الراشدي الذي تناوب فيه الخلفاء: أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضي الله عنهم جميعاً؛ غير أن التقليد الحميد سرعان ما تحوَّل بعد ذلك إلى ممارسة للحاكمية خارج دلالة وكُنه المُسمَّى الأول، فقد جاء الداهية الحصيف.. الحليم.. البراغماتي؛ معاوية ابن أبي سفيان ليُرسِّخ تقاليد المُلك الوراثي، ولتستمر هذه المتوالية طوال دولتي بني أمية وبني العباس، فأصبح اسم الخليفة لا يتضمن الدلالة التاريخية الأولى للمرحلة الراشدية.
الأهم من هذا وذاك أن الخلافة كنظام للحكم لم يرد في الكتاب والسنة، ذلك الأمر الذي وضَّحه العالم الأزهري الكبير الشيخ علي عبدالرزاق قبل عقود طويلة في كتابه الهام (الإسلام وأُصول الحكم) .. يومها قامت قيامة المتعصبين العدميين، وحاولوا رجم الرجل بشتى التُّهم، لكنهم لم يجدوا الحجة الدامغة، فوقعوا في مواجهة سافرة مع تيار التنوير النهضوي الشامل الذي عرفته مصر والأمة في تلك الأيام من بدايات القرن العشرين.
Omaraziz105@gmail.com