ليس المسلمون هم الوحيدين في ديانات الجدل التاريخي التناظري بين الشريعة والحقيقة، فقد عرفت المسيحية التاريخية مثل هذا الجدل البيزنطي، كما شهدت أوروبا القرون الوسطى شكلاً عاتياً من أشكال التعصب الديني الرافض للعلم والاجتهاد، ووزَّعتْ الكنيسة القروسطية صكوك الغفران على التابعين الغافلين عما يحيط بهم من أحوال، فيما اعتبرت كل مجتهد مجرد مارق مُهرطق يستحق الموت، وقد عرف التاريخ الأوروبي عشرات العلماء ممن تمَّ إحراقهم مع كتبهم، كما وَقَعَ العالم الإيطالي جاليليو جاليلي في ذات المأزق يوم أن قرر أن الأرض كروية، وأنها تدور حول نفسها وحول الشمس، فكان عليه أن يقدم التوبة عن مقولاته تلك، وإلا تعرَّض لما تعرض له مُجايله الغنوصي جوردانو برونو.
المتصوف الغنوصي جوردانو برونو حاق به ما حاق بالحسين بن منصور الحلاج في تاريخنا الخاص، فقد تم حرق جوردانو على خشبة التطهير الديني، وكانت نيران كتبه شاهداً على تلك المحرقة التراجيدية، تماماً كما تم حرق الحلاج بذات التهمة، ليتم ذر رماد بقاياه في الهواء.
كانت المسافة بين الشريعة والحقيقة مسافة حرجة في كل التواريخ الدينية المعروفة، وقد قدَّم الفكر الإسلامي الراشد مخرجاً منطقياً عاقلاً من هذه الإشكالية من خلال الفلسفة الرُّشدية التي قالت بأنه لا تعارض بين المستويين، طالما كانت الفضيلة هي الجامع المشترك الأعلى بينهما، ومن هذا المنطق العاقل استفادت الكنيسة البروتستانتية الأولى بقيادة الراهب مارتين لوثر الأول، الذي سار على مذهب ابن رشد، ليُخرج أوروبا من ظُلمات القرون الوسطى، ومن محنة التناقض المفتعل بين الشريعة والحكمة، وليقدم فسحة دينية في الثقافة الأوروبية.. تلك التي تواصلت لاحقاً مع كبار أعلام الكنيسة العرفانية الثقافية في أوروبا الكاثوليكية بزعامة توما الأكويني.
Omaraziz105@gmail.com