بالطبع سبُب مشهد «نحر» 14 جندياً على أيدي مقاتلي القاعدة، صدمة كبيرة للجميع، فهي كذلك تعبِّر مجازاً عن سطوة الموت على رقاب الجميع. كيف يمكن أن تكون الحياة رخيصة في هذا البلد. هل يعقل أن يقبل شخص طبيعي تلك الأفعال، على الأقل يعكس الرأي العام مدى إمكانية انتشار تلك القيم، عبر تعاطيه. في الواقع استهجن كثيرون، بالتأكيد معظم اليمنيين أرعبتهم الصور، بل وزادت في وحشتهم من مجاميع تقتل باسم الله، بل إن كثيرين بدأوا يتقبلون فكرة عدم استخدام التوظيف الديني في الواقع السياسي، ربما أكثر ما صدمني موقفان في صباح الاثنين الفائت، في الصباح الباكر وأنا أستقل تاكسي، بينما شاب يبدو لطيفاً، ويسمع إلى أناشيد حول فلسطين، فجأة كنا نتحدث عن الواقع اليمني، وإذ تحدثت حول المذبحة، رد يبرر المذبحة “أيش تشتينا نعمل قتلوا علينا 8، واحنا استقضينا” كان يتحدث بدون تحفظ، وعندما سألته عن أي نوع من القيم تسمح بذبح بشر بتلك الطريقة، حتى وإن كانوا جنوداً، هل يوافق على هذا النوع من القتل، أدهشني الفتى اليافع وهو يتحدث بصورة عفوية، ودون تحفظ كان من أولئك الفتيان غير القادرين على بطن أفكارهم.
أجابني سريعاً: هذا بس اللي تعترض عليه الذبح، يعني القتل عادي. كيف يجري التحول بالخطاب، بالتأكيد ليس هناك موافقة على القتل. أحد أصدقائي يقول إن جريمة كتلك تبرر لأطراف آخرين بأن يمارسوا قتلهم، إذ إنهم يجدون أنفسهم متفوقين أخلاقياً بما أنهم لا يذبحون بتلك الطريقة البشعة، بالتأكيد هناك أطراف عدة تمارس القتل، تمارس توزيعها للموت دون هوادة، أي أن القتل جزء من تطبيق الحقيقة بالنسبة لها، أو من مشروع أحقيتها ذات المرجعية الدينية. كل هؤلاء الذين يعتمدون على مرجعية دينية، أو يضعون أنفسهم كممثل أوحد للشريعة، بما أنهم يملكون أحقية شرعية من الله، فإن القتل لديهم يستبيح كل شيء. ثمن إنسان لا يساوي شيئآً، لم يعد لحياة إنسان أي حرمة. إنه مزاج يسود التركيبة الاجتماعية بقوة، حتى أن تلك الصور، تتحول إلى اعتياد. ها هي الحرب مازالت مستعرة في الجوف بين الحوثيين والقبليين، لكن لماذا سأشعر بالخوف؟.
يمكن لشاب يافع كسائق التاكسي أن يكون مرحاً ويشع بالحياة، حتى أنه بدا لي لطيفاً لولا تعلقه بخواطر تسودها رائحة القتل، أين تكمن المعضلة إذن؟ حتى لو كان القتلة يتخفون في الجبال الشاردة هناك وسط محيط من القبائل، حتى لو كان بإمكان آلة عسكرية القضاء عليهم، هناك حولنا مصانع تنتج بوتيرة عالية ذرائع القتل. ما يخيفني أن يكون هناك قبول داخل المجتمع، بأن الجريمة تغدو للبعض مثل عمل عادي. عندما يتعامل البعض مع الجريمة بفتور وبرود، كما لو يتحدث عن شأن عادي، سيعني ذلك بالتأكيد أن الجريمة قابلة للازدهار، أي أن هناك حاضناً في المجتمع، وهناك تشريعاً يبيح كل هذا، والكارثة أننا نعيش عصر الجريمة القائمة على الذرائع الدينية، القتل بمشاعر باردة، هل نستعيد صورة داعش وهي تدفن العشرات لأنهم ينتمون لعقائد أخرى؟. إننا في عصر جريمة تستدعي تراثاً هائلاً من ثقافة التحريض والتعصب، هناك مخصب هائل مستعد لجعل شاب بسيط عصبية متخمة بالبارود.
السؤال هو: كيف يمكن استئصال المخصب الرهيب للإرهاب، والتطرف؟.. هذا الشاب كان يستطيع أن يفكر بمستقبل غير الذي يغط فيه؛ على الأقل تلك الخواطر التي يفكر بها شاب عادي، تكوين أسرة، زواج، لكن هناك آلة إحباط رهيبة، واقع مجهول، لا يلوح عليه أي أفق للنجاة، على الأقل بالنسبة لمعظم الشباب، فهم لا يحصلون على حصيلة تعليمية جيدة، وسوق العمل لا يمنح أملاً. فقط يزدهر سوق الموت، تزدهر الميليشيات وتستقطب الكثير من العاطلين، إنها السوق التي تستقطب آلاف الشباب.