من نافل القول إن ثقافة المهنة في الزمن العربي تتوازى مع مكانة وموقف الاقتصاديات العربية من العالم، والاستنتاج المباشر هو أننا نعيش اقتصاديات لا علاقة لها بالنمو الحقيقي من جهة، كما أنها استهلاكية بامتياز، أي أن مؤشرات الاستهلاك فيها أعلى بمراحل من مؤشرات الإنتاج.
وعليه فإن الاعتماد على المصدر الواحد يكاد أن يكون الغالب كما هو الحال بالنسبة لـ«النفط» وإن الاعتماد على الخارج يكاد أن يكون حاسماً أيضاً، ولهذا السبب فإن أي حصار على الاقتصاديات العربية سيصيبها في مقتل كما حدث بالنسبة للعراق وليبيا وكما يحتمل أن يحدث مع سوريا إذا سار المخطّط الأمريكي وفق المرسوم له..!!.
هذه الحقيقة تترجم وضع المهن في المنطقة العربية، فالتخصُّص غائب إلا فيما ندر، والناس ينوّعون على كل أنواع المهارات، لكنهم في المقابل يعرفون كل شيء ولا يعرفون مهنة واحدة بصورة عميقة ومعيارية، والسبب في ذلك هو أن المواطن العربي محاصر في قوته اليومي، لاهث وراء إنتاج حاجاته المادية والروحية بالحد الذي يمكّنه من البقاء كريماً معافى.
ولهذا السبب لا يستطيع الاعتماد على مصدر واحد للدخل، ولا يجد الحماية الضرورية إذا ما أصيب بعاهة أو مرض، الأمر الذي انعكس بصورة مؤكدة على ثقافة العمل والمهنة، فأصبحنا نعرف كل شيء ولا نعرف أي شيء، نخاف من المجهول ونتمسك بأهداب المهن لعلّ وعسى أن تنفعنا هذه المهنة إذا غابت الأخرى..!!.
وحتى نتبيّن هذه الصورة الأكروباتية في ثقافة المهنة عربياً؛ لا بأس من الإشارة إلى ما يجري في العالم الصناعي الزراعي الحرفي، حيث الأبحاث العلمية والإنتاج وإعادة الإنتاج، والتطلُّع الدائم إلى ابتكار وإيجاد الحلول لمشاكل الحياة والبيئة.
ففي ذلك العالم الذي تسود فيه الشفافية والمشاركة، وتتقدّم فيه الأوعية الضريبية على خطى تأمين حاجات المحتاجين وحماية المعسرين؛ لا يجد الإنسان كبير عناء في ضمان رزقه ومستقبله، وبالتالي يكون أساس المنافسة قائماً على التخصُّص والدقة والمهنية العالية والمعيارية في الإنتاج، تلك الصورة المغايرة جذرياً لما يحدث في العالم العربي وبدرجات متفاوتة.
كان المفكّر كارل ماركس يقول: «إن الحياة المادية للبشر تصنع القيم التي بها يؤمنون ويتمسّكون» ولهذا السبب فإن هذه المعادلة الحياتية المادية الصرفة السائدة في العالم العربي خلقت ثقافة مهنة منحدرة، وبالتالي فإن التساهل وعدم الدقة وتصريف الأحوال صفة شائعة في ثقافة العمل، وليس في هذا الأمر ما يدعو إلى الاعتقاد بأن المشكلة تكمن في الذات البشرية، بدليل أننا نبدع في اليابان وأمريكا وفرنسا، فيما لا نستطيع فعل ذلك عربياً.
حقاً إن الوجود الاجتماعي للبشر صانع كبير لثقافتهم، وبالتالي فإن شرط الشروط في تغيير ثقافة المهنة والعمل يكمن في تغيير شرط الوجود المادي الحياتي في اتجاه تعميم الشفافية وتدوير المشاركة العملية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونبذ الاحتكار والاستبداد.
Omaraziz105@gmail.com