الترجمان المناسب لـ«العماء» هو «شفرة»، وإذا ذهبنا إلى علوم الأسلاف تكون الكلمة ودلالتها مرادفة للتعمية، والعماء أصل أصيل في الجذر الأول للموجودات، فقبل أن تتخلق الأكوان المُتجسّدة بعوالمها الجفرافية وعناصر جدول «مندليف» الطبيعية كان الكون «عماءً في عماءْ»، حتى جاء الأمر الإلهي المُفارق لنواميسنا المعروفة، وقال: «كُن» فباشرت تلك الأكوان رحلتها الدهرية نحو اليوم الموعود.
هذه الرحلة الدهرية استقامت على «رتق وفتق» فدار السديم الأول دورته الكونية الدهرية، ونشأت قوتا الطرد والجذب، وما يترافق معهما من قوى مغناطيسية وكهربائية، وتبلورت ملامح البحار والمحيطات واليابسة، وتجسّدت الخلائق في صورها العابرة وتداعياتها المسافرة إلى اليوم الموعود، وأصبح الظاهر مغروساً في شفرة «العماء»، والباطن تُرجماناً للمعنى.
«العماء» مستودع الأسرار وشفرة الخفايا وما هو أخفى، لكن هذه الشفرة تعني أيضاً كُنه الظواهر وجوهرها، والحال، فإن المعرفة البرهانية استتباع مؤكد للغيب الذي يأتينا تراتباً وتدرجاً، فما لا نعرفه أهم بكثير مما نعرفه، وما لا نُدرك كُنهه أكبر بكثير من مدركاتنا المحدودة.
والشاهد أننا لا نرى أفضل من بعض الكائنات، ولا نسمع أفضل من أخرى، فيما نتمتع بميزات نسبية حباها لنا الخالق، وفي ذروة هذه الميزات العقل الذي يفيض بنا فنخرج من الغريزة إلى المنطق، ومن التلقائية إلى الرُشد، ومن البصر إلى البصيرة، ومن المعرفة المُجردة الى الإدراك، فيحق علينا ما قاله الحلاج:
للعلم أهل وللإيمان ترتيب
وللعلوم وأهليها تجاريب
فالعلم علمان مطبوع ومكتسب
والبحر بحران مركوب ومرهوب
وفي مقام مواز يقول الشاعر:
العلم علمان؛ علم يُستضاء به
وعلم يكشف الحُجُبا
وبهذا نصل إلى مثابة «العماء» بوصفه مستودع الأسرار والسرائر على المستوى الفردي، وأصل الوجود على المستوى الدهري، ومعنى المرئي والغائب في أساس النظر والاعتبار.