ظهر البهلول “دَمْدَمْ” في الحارة بالغاً تجاوز سن الرشد، وقد قال العرَّابون العليمون بأحوال الحارة إنه جاء من اللازمان واللامكان، غير أنه وبرغم ظهوره المتأخر، كان طفلاً حتى أعماق العظم، فلم يكن يجيد الكلام، وكان يبكي كأي طفل صغير إذا تعرض للأذى. المقيمون في الحارة قالوا إنهم وصلوا إلى هذا الحي منذ سنوات خلت، وعندما بدأوا يقيمون منازلهم الخشبية استقبلهم دمدم بكلامه غير المفهوم وتأتاته المُبهمة، وبعد أن شرع المقيمون في بناء منازلهم الخشبية المتواضعة لاحظوا أن دمدم خرج يحمل بيرقاً أخضر مرفوعاً على عصاة طويلة، في نهايتها مبخرة يخرج منها بخار ناصع البياض, وكان يدور بمبخرته ورايته حول المنطقة الجديدة التي بدأت للتو في التعمير، منشداً كلمات غير مفهومة، كأنه يبارك للقادمين ويعتبر حضورهم امتداداً له، فيما يمنحهم تعميده السحري.
كانت مبخرة البهلول المعتوه الذي سُمي في الحارة باسم “دمدم” تنتصب على قمة عود طويل متعرج وممتد لبضع أمتار إلى أعلى الأفق، وكانت أول عتبة للمبخرة المعلقة في قمة العود بيرق أخضر اللون عليه كتابات بيضاء ناصعة هي مزيج من العربية وهيروغليفيا غامضة تجمع بين أشتات من النصوص الغريبة الملتبسة، تماماً كموشحات دمدم التي لا تنتمي للغة مفهومة، بل كانت أشبه بخليط من الأصوات كتلك التي يطلقها طفل ما زال يتهجَّى كلماته الأولى.
يتجول دمدم بالمبخرة سنوياً، وفي يوم معلوم لا يتغير على مدى السنين، وعن المبخرة المنصوبة في أعلى الخشبة يصدر خيط دخان أبيض رفيع. يتجول بهلول الحارة بين المنازل وتصل روائح مبخرته إلى أُنوف السكان، حاملة معها رائحة غامضة هي خليط من روائح العود واللبان البلدي، وكان مألوفاً أن تصاب أغنام الحارة بعطس متواصل في أيام جولات البهلول، ممايقتضي وقفة أمام هذه الظاهرة.
Omaraziz105@gmail.com