ليست المسألة ولن تكون بالنسبة لدور المثقف العربي هي المفاضلة بين اختيارين: إما الانحياز إلى جماهيرية ظرفية، أو التعالي عن هذه الجماهير بأبراج عاجية منغلقة على التنظير الذاتي والخطاب الفوقي؛ ذلك أن المسألة محدّدة بالتنوير المعرفي المحمول على منهاج العلم ومنطق العقل.
لم ولن تكون الجماهير العربية في كل أقطار أمتها بحاجة إلى من يعرّفها بما تحياه من تسلّط وفساد، بذات القدر من انتفاء حاجتها إلى من يقول لها إن أعداءها التاريخيين ممن صنعوا الكيان الصهيوني في قلب وطنها، وعملوا على إسناده بالقوة وضمان تفوُّقه بها على محيطه العربي خلال قرابة القرن؛ هم الآن أصدقاء لبعض الشعوب العربية، وقوة تعمل لصالح هذه الشعوب وحقها في الحياة الحرة الكريمة.
هنا انتكس بعض المثقفين العرب حين حاولوا الخلط بين انحيازهم لفعل الانتفاض الشعبي ضد تسلُّط وفساد أنظمة الحكم العربية، وبين استدعاء العدو التاريخي للحق العربي إلى واجهة المشهد الانتفاضي، بزعم الحاجة إلى دعم وإسناد الحلف الأطلسي لحركة الاحتجاج الشعبي بكل وسائل الإسناد السياسي والعسكري والإعلامي والمخابراتي والعملياتي، بما في ذلك جلب وحشد مرتزقة القتال إلى أقطار عربية كانت تاريخياً في مواجهة الهيمنة الصهيوأطلسية على الأمة العربية.. ليست القضية هنا في شرعية الاستعانة بقوى أجنبية ضد بطش سلطات محلية أو قوات غزو أجنبي واحتلال عسكري؛ بقدر ما هي في الحقيقة القائمة تاريخياً وواقعياً والدالة على عداوة استراتيجية بين شعوب الأمة العربية ومنظومة الحلف الأطلسي وبصورة تقول استراتيجيات دول هذا الحلف إنها منحازة تماماً وكلياً لصالح ومصالح الكيان الصهيوني بإطلاق وثبات.
من مسلّمات المعرفة الإنسانية بداهة أن جيوش الدول وخاصة الكبرى منها تتحرّك وفق استراتيجية المصالح الحيوية والأمن القومي لهذه الدول وليس وفق المنطق الخيري لجمعيات الإحسان التي تتبرّع للغير بحقوقها في الحرية والكرامة والديمقراطية.
وحين تعي الشعوب العربية هذه الحقائق فإن ضعفها وعجزها يمنعانها من إعادة إنتاج التجارب التاريخية في أقطار وأوقات أخرى؛ وذلك يعني أن تكرار التجربة العراقية في ليبيا لا تدلّ على قبول جماهيري بقدر ما تدلّ على عجز القوة، بدليل أن المقاومة العراقية للاحتلال الانجلو أمريكي كانت شعبية بامتياز.
نكسة المثقف العربي لا تتوقف عند انخراطه في التضليل الإعلامي وتزييف الوعي من خلال تحويله أعداء الأمة إلى أصدقائها؛ بل تشمل الردّة عن فكرة أبدعها بعض هؤلاء المثقفين عن اغتيال العقل العربي بسلفية دينية هي ذاتها السلفية التي ارتمى في أحضان مصارفها ورحّب بخطابها الهادم للوحدة الوطنية والمدنية تحت مزاعمه الكاذبة عن الحرية والتحرير.
albadeel.c@gmail.com