الاسترجاع المنهجي لتراثنا العربي الإسلامي، له مغزىً كبير في أحوالنا الراهنة المُترعة بالخيبات والتساؤلات, ذلك أن هذا التراث يرتبط حصراً بمستوييْ الاجتهاد الذاتي، المُساهم في إثراء التراث الفكري الإنساني من جهة، كما التفاعل الخلاق مع التراث العربي الإسلامي، مما أفصح عنه العلامة ابن سينا في معرض تقديمه لكتابه الهامّ (منطق المشرقيين)، حيث ألمح إلى المكانة الاستثنائية للفيلسوف اليوناني “أرسطو” قياساً بسابقيه.. لكنه إلى ذلك لم يتداعَ معه تداعياً حُراً يخلو من الإضافات والمراجعات والتدقيق، حتى أننا نرى بعين اليقين أن ابن سينا نهل من نبع الفكر الإنساني الواسع، بما في ذلك فكر المشرقيين غير اليونانيين، وهو ما تشفُّ عنه نصوصه الدالة في هذا الجانب، مما يجعل ابن سينا أحد كبار الجدليين المُتفلسفين في التاريخ، فقد كان مُناجزاً لفكر المشائين اليونانيين.. مهجوساً بالمفاهيم الكُلِّية التجريدية، ومقيماً في زمن الخصوصية المعرفية التي أومأ إليها في مقدمة كتابه الماثل، حيث قال: “وما جمعنا هذا الكتاب إلا لنظهره لأنفسنا .. أعني الذين يقومون منا مقام أنفسنا، وأما العامَّة من مُزاولي هذا الشأن، فقد أعطيناهم في (كتاب الشفاء) ما هو كثيرٌ لهم وفوق حاجتهم، وسنعطيهم في اللواحق ما يصلح لهم وزيادة على ما أخذوه”.
بهذا القول يختصر ابن سينا مفهومه للجدل الذاتي المرتبط بالتحولات الذهنية الخاصة بالأنا الرائية، ذلك أنه في ما يكتب لذاته، فإنما يفترض ذاتاً مُتغيرة مُحتارة ومتحولة، والدليل على ذلك ارتباط هذه الذات بالذوات النُّخبوية الأُخرى التي يخاطبها من نفس المنبر، كما لو أنه يخاطب نفسه، وهذا يستدعي فرضية المُتغير والمُتحول الأُفقي بصورة واضحة.
نتجوَّل معه في هذا التدوين الرفيع مع العلوم وكُنهها، ومع المنطق وفنونه، ومع المعاني في اللفظ والكُلِّيات والجزئيات، ومع الدلالات والماهيات، ومع اللوازم والعوارض المفاهيمية، ومع العام والخاص، وغيرها من رؤى ومقاربات، فيما نُتوِّج المطبوع بقصيدته المزدوجة حول علم المنطق، والتي تختصر كامل المفاهيم المتعلقة بموضوعها، من خلال بيان شعري منظوم .. والذي مثل في تراثنا وسيلةً حاسمةً لاستذكار واسترجاع وحفظ علوم المنطق والنحو والصرف والبيان والبديع والحكمة.