الثقافة السياسية ليست مفهوماً مركباً من مجالين متغايرين هما: السياسة والثقافة, بل هي مفهوم مستقل يجمع المجالين بروابط عضوية منبثقة من خاصية الاشتراك بين المجالين في ثلاثة مستويات تحليل أساسية, هي: مستوى النظام “المعتقدات” ومستوى العملية السياسية “المواقف” و مستوى السياسات “القيم”.فإذا كانت تعاريف الثقافة تشير بصفة عامة إلى ما أسماه دوركهايم الوعي الجمعي بفضل التمثلات الجماعية والمثل والقيم والمشاعر المشتركة بين أفراد المجتمع كافة, وكانت السياسية مرتبطة بفلسفة تشكل الدولة, بما هي تشكل السلطة السياسية وانقسام المجتمع بين حاكم ومحكوم, فإن الثقافة السياسية كمصطلح مجرد يمكن اعتبارها مجموع المواقف والتوجهات والأفكار والقيم التي تحدد شكل النشاط السياسي أو تؤثر في الحياة السياسية.
تكمن أهمية الثقافة السياسية بارتباط دراستها في كثير من الحالات بمتوسط التوجهات السياسية على المستوى الوطني وتأثيرها في إمكانات التحول و التغيير أو استمرارية الأنظمة السياسية واستقرارها, وبمعنى أدق يرتهن النشاط السياسي الساعي إلى الاصلاح والتغيير للثقافة السياسية باعتبارها مؤشراً دالاً على توجه الإصلاح والتغيير في المستوى الوطني العام, فإذا كان النشاط السياسي مثلاً يسعى لتحول ديمقراطي, فإن الثقافة السياسية تعني تجسد هذا النشاط في المجتمع بصورة دالة على كونه حالة وطنية, تمثل الوعي الجمعي لأفراد المجتمع.في الربيع العربي, تجسد غياب الثقافة السياسية وحضورها في آن, من خلال الوعي الجمعي بضرورة التغيير وحتميته, ثم انعدام هذا الوعي الجمعي بالبديل المنشود, فكانت المسارات المتحركة بالانتفاض الشعبي نحو التغيير حاسمة ونافذة في الشق المتعلق بإسقاط النظام القديم, لكنها غائبة وعاجزة في تحديد طبيعة وكيفية بناء النظام الجديد كبديل منشود ومقصود بإرادة التغيير الشعبية.
ولعل البرهان القاطع في دلالته على غياب الثقافة السياسية هو ما تجسد بعد الربيع العربي في كل أقطاره, من غياب التمثلات الجماعية وغياب المشترك الجامع لصالح تمزقات قبلية وطائفية مصبوغة بالاقتتال الأهلي والتدمير الذاتي لمقومات الوجود المجتمعي على المستوى الوطني لكل قطر, وعلى المستوى القومي في المواقف والتوجهات من بعض الحالات الربيعية على أسس طائفية.يضاف إلى هنا البرهان ما قدمته المرحلة الانتقالية في أقطار الربيع من شواهد دالة على تمزق الوعي الجمعي حول البديل الديموقراطي بين العلمنة والأخونة, لأن السياسة انحازت لأطرها التنظيمية ضد الاستشراك الذي تخلقه الثقافة بين أفراد المجتمع وتجسده في وعي جمعي بالديمقراطية وفي سلوك فردي معبر عن التمثلات الجماعية والمشترك الوطني.