تقدم الممارسات المصاحبة للعملية الانتقالية في الفترة التي تلت انهيار أنظمة الحكم في الأقطار العربية التي شهدت أحداث ما بات يعرف بـ« الربيع العربي» عام 2011م أقول تقدم هذه الممارسات واقعاً مشهوداً ومتحركاً بكل ما يمثل تدميراً ممنهجاً لفكرة الديمقراطية ومنظومتها النظرية والعملية.
والأمر المثير للأسى والغرابة أن هذا التدمير تقوم به وتقدمه القوى التي عارضت سلطات الاستبداد وبشرت ببديل ديمقراطي قادم بها ومعها حال سقوط أنظمة التسلط والفساد، وصعود هذه القوى إلى سلطة الحكم تجسيد للإرادة الشعبية وتعبير عنها وتمثيل لها، والباعث على الأسى والغرابة هنا، أن كل ما تقدم في الواقع من هذه القوى وبها، هو صور أخرى ومسميات جديدة لذات التسلط المنهار وبأشكال أسوأ وأقبح مما كان.
ربما كانت محاسن التسلط المنهار بارزة في مظاهر وحدة المجتمع وسيادة الدولة، لكن البدائل التي قامت على أنقاضه وبرزت بعد انهياره صنعت في الواقع السياسي والاجتماعي سدود التفرقة وأنتجت عوامل التمزق والشقاق وحولت مكونات المجتمع القبلية والجغرافية والتاريخية والدينية إلى وحدات متنابذة وفرق متناحرة ضاع عنها الوطن وغابت منها الهوية والبلاد حين انقسمت الأوطان على سكانها بين قبائل وعشائر وعلى ترابها بين شرق وغرب، شمال وجنوب، وعلى تعدديتها الثقافية بين سنة وشيعة وعلى تنوعها المذهبي بين اعتدال وتطرف.. لم يتوقف اختلافها عند حدوده السياسية بل أزيحت منه السياسة جهلاً أو عمداً ليحل محلها الانتماء الفئوي إلى عشائر وطوائف والموقع الجهوي بين شرق وغرب، أو شمال وجنوب وحين تمزق الإطار الجامع في الوطن، توحدت الأجزاء المتناثرة على السلاح والعنف، لندخل طوراً جديداً من الحروب الأهلية والصراعات المدمرة للأوطان والشعوب وكان كل هذا يخرج للناس محمولاً على مسمى الديمقراطية ومصنوعاً من أجلها وفي سبيلها حتى اقترن لفظ الديمقراطية بواقع الحال في وضع ينفر الناس من الديمقراطية لتحملها كل القبح المعاش باسمها وتحت رايتها.
ربما لم تحن بعد اللحظة الديمقراطية عند العرب وبينهم أو أن الفكرة الديمقراطية لم تلق بعد من يؤمن بها طريقاً لخلاصنا من تسلط الاستبداد والفساد ومن مآسي التمزق والشتات لنجتمع تحت رايتها وفي نظامها على التعددية الموحدة والصراع السلمي الآمن من دورات العنف والخراب هذا إن نجت الفكرة الديمقراطية من الاندثار بهذا التدمير الممنهج لمعانيها وقيمها ومؤسساتها.
albadeel.c@gmail.com