في سنوات العقدين المنصرمين تم الهجوم المبرمج على المثالية السياسية لا باعتبارها فلسفة مضادة للفلسفة المادية, ولكن باعتبارها تغليباً للمثل العليا في بواعث ومقاصد السياسة ومواقفها وأفعالها, حيث أدينت هذه المثالية لصالح بديل محبّب اسمه المصلحة والمكسب الملموس.
ولا جدال في ضرورة جلب المصالح الخاصة والعامة من الموقف السياسي ومن العمل السياسي الخاص والعام أيضاً, ولكن الجدال مطلوب وضروري في حتمية التخلّي عن المكاسب والتنازل عن المصالح لصالح مُثل عليا أو قيم نبيلة, تتجسّد فيها المصلحة بعموم الوطن ومستقبله لا بخصوص الحزب والجماعة, وهو ما يتحقق مثلاً بالتنازلات التي قد تقوم بها جماعة سياسية أو مجتمعية لصالح الخير الوطني العام.
وحتى لا نتوه في تفاصيل المقارنة بين المثالية والنفعية إن جاز لنا القول بنفعية سياسية لا فلسفية, يتوجب علينا الانتقال الى الواقع في اليمن لبيان الحاجة إلى, والمصلحة من, مثالية سياسية تضحّي في سبيل الانتصار للقيم الانسانية والمثل الأخلاقية وتتنازل ولو مؤقتاً عن مصالحها الخاصة في سبيل الصالح العام.
بداية نؤكد على أن هذه المثالية لا تؤثر غيرها بمصلحة هي أحق بها من الغير, ولا تفرّط بما هو حق لها, ولكنها تؤجل حساب المصالح وتقدّم عليها حساب القيم والمثل, مستعدة للبذل والتضحية في سبيل انتصارها وقادرة على التنازل عما يخصّها من مكسب ومصلحة مقابل انتصار القيمة والمثال.
وحتى نكون واقعيين في الترويج لمثالية نراها ضرورية في الوقت الراهن للعمل السياسي ومواقفه في اليمن, علينا أن نتحدّث عن خطورة التمزيق الرأسي والأفقي للمجتمع على أسس جهوية وفئوية, بحيث نقول إن مثالية الوحدة تدفعنا إلى الانتصار لقيم القبول بالآخر والاختلاف, ولقيم التسامح والتعايش, ولو جاء هذا الانتصار ضد ما نتصوّره مصلحتنا المحققة بالجهوية والفئوية.. إن المثالية ضرورة سياسية للخروج من جحيم الاقتتال وخراب الاحتراب, حين يكون السلم والسلام قيماً سامية ومثالاً أعلى يستحق منا التضحية ويوجب علينا التنازل بالمصالح التي قد تحققها لنا الحروب والاقتتال, وهنا قد نضحّي في سبيل الانتصار للسلم بالسلم, ولكننا لا نخضع للقوة ولا نقبل بالعنف, وإنما نواجهه بالسلم ونحرص على أن نحوّله ونتحوّل به إلى سلام عادل ودائم.. لعل المثالية السياسية والمثالية الزائدة تحديداً, هي ما نحتاج إليه في المشهد الراهن المشحون بالكراهية والعنف، والموبوء بالأنانية والاقتتال, أفلا تستحق وحدتنا وسلامنا وأمننا واستقرارنا تضحية نتخلّى بها عن أنانيتنا ونتنازل عن مصالحها الضيقة لصالح مصلحة مشتركة في وطن يتسع بالجميع وللجميع.
Albadeel.c@gmail.com