حين قبل المشير عبدربه منصور هادي, أن يكون رئيس الجمهورية اليمنية في مرحلة انتقالية, فإنه كان يجسد إحساسه بالمسئولية الوطنية التي فُرضت عليه دون قصد منه أو اختيار, وقد عبّر بقبوله المنصب عن شجاعة شخصية وعن إيمانه بصدق التوافق السياسي بين أطراف الأزمة على شخصه وبرنامج عمله والقبول بإدارته للمرحلة وتنفيذه للمهام الموكولة إليه مع شركائه في التسوية والخاضعين لسلطته في مسائل الحسم والتنفيذ.
لا أريد مجاراة المعطيات المتوافرة بكثرة منذ تولي الأخ المشير عبدربه هادي رئاسة الجمهورية في دلالتها على أنه كان صادقاً في إيمانه بالتوافق السياسي بين قوى الأزمة, في حين كانت هذه القوى تخادع بظاهر التوافق لتمارس ما تؤمن به في الباطن من تمسكها بالصراع وحرصها على بقائه وعلى إدارته من خلال التسوية وبواسطة الرئيس هادي, ولكني لن أهمل هذه المعطيات في تأكيدها الخطايا التي اقترفتها أحزاب الوفاق انطلاقاً من تصوّرها أن الرئيس هادي سوف يحقق لها ما عجزت عن إنجازه في ميادين الصراع.
ابتداءً يحسن بي توضيح حقيقة تتجاهلها أحزاب الوفاق في تعاملها مع رئاسة هادي, وفي مواقفها منه ومن سياساته, هذه الحقيقة تقول: إن الشعب اليمني وليس غيره, وأقصد هنا بالشعب, تلك الجموع التي احتشدت عام 2011م, في الساحات والميادين مطالبة بالتغيير للنظام القائم, ومختلفة في الأسلوب والوسيلة التي تحقق هذا التغيير بين معارضي ومؤيدي الرئيس السابق, أقول: إن هذه الحقيقة تؤكد إن المهمة الرئيسة للرئيس هادي هي تغيير النظام العام تغييراً يشمل بنيته ووظائفه, على أن تُنجز مهام التغيير, بالتوافق والشراكة, وبما يعيد بناء الدولة ويوسّع الشراكة الوطنية.
ابتدأت قوى الأزمة خطاياها في المرحلة الانتقالية من توهم قدرتها على إقصاء بعضها لغيره على أن يكون الرئيس هادي الأداة التي تمكّن أحد الخصوم من خصمه, وعلى هذا تكالبت تلك القوى على مصالحها وعلى أن تنفرد هي دون الخصوم بقيادة هيئات الحكم وولاية مؤسسات السلطة, فمثلاً, أرادت مراكز النظام القديم أن تكون هيكلة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية, إحلالاً لطرف دون الآخر, أو على الأقل تقاسم بينها, ولقد كان حرص الرئيس هادي على التوافق وعلى الشراكة نقطة ضعف تكاثرت بها خطايا أطراف الوفاق.
كان على قوى الوفاق, أن تقبل بالتغيير الشامل والكامل للنظام, ومن ثم التوافق على لجنة فنية متخصصة برئاسة الرئيس القائد الأعلى, تتولّى عملية إعادة هيكلة الجيش والمؤسسة الأمنية على أسس وطنية واحترافية تتخلص من الانقسام والولاءات والانتماءات الجهوية والقبيلية, على أن تحرص ألّا تفسد هذه الهيكلة بشروطها الإبقاء على تقاسم المؤسسات العسكرية والأمنية, أو توسيع هذه القسمة لأحدهم دون غيره.
وفي الحملات الإعلامية التي بلغ بعضها حد الانحطاط السفيه ضد رئيس الجمهورية اعتراضاً على بعض قراراته التي لم ترض أطراف الأزمة أقول في هذه الحملات الإعلامية, جميعها عبّرت بعض الأطراف عن فضلها على الرئيس هادي بدورها في تسلّمه رئاسة الجمهورية, وبالتالي فواجبه تجاه هذا الجميل الوفاء له والتسليم برغبات هذه القوى والتي لا تقل عن أن يكون الرئيس نفسه مأموراً بأمرها, منصرفاً لخدمتها, وإلا فإنه كما قالت ذلك صراحة, خائن للشعب وثورته, وللعهد وأمانته, وحين تتناوب تلك القوى في تلك الحملات يكتشف لنا السّر الذي يُفصح عن حرص الرئيس هادي ما استطاع إلى ذلك سبيلاً على توافق محكوم بالتغيير بعيداً عن رغبات إعادة تمركز قوى النفوذ القديم في خارطة ترتيبات جديدة.
وإذا كانت خطايا قوى الوفاق تبدأ من تنكرها للتغيير وإصرارها على التحكم بالسلطة والإبقاء على قوى النفوذ ومصالحها, فإن هذه الخطايا تضخمت حتى أضرت كثيراً بعملية نقل السلطة, وإنجاز التغيير السلمي المنشود للنظام المرهق بالاستفراد والاستحواذ وبالفساد والاستبداد, وهذا التضخم نتج عن تلاعب باستحقاقات الفترة الانتقالية, والوصول بها إلى وضع متاح للابتزاز والضغوط, من خلال نهاية فترتها بغير وضوح سياسي, يتيح لهذه القوى أن تزايد على شرعية الرئيس هادي, كما ذهب بعضها إلى الزعم بأن شرعية رئيس الحكومة من شرعية رئيس الجمهورية, وهذه مغالطة مكشوفة.
إن التوافق على الرئيس هادي مشروط بالتغيير ومسنود بشرعية شعبية لم تؤكد شرعية الرئيس فحسب, بل أكدت شرعية التغيير الذي احتشدت للمطالبة به وانتصرت له بصمودها وتضحياتها, ولذلك, فإن الرئيس هادي, مفوض شعبياً باستفتاء عام لإدارة عملية الانتقال السياسي السلمي إلى يمن جديد وبناء دولة مدنية مؤسسية ونظام ديمقراطي قائم على مبدأ المواطنة ومحقق للشراكة والمشاركة ومجسد لسيادة القانون على الجغرافيا والشعب وعلى الأفراد والهيئات.
ربما تدرك هذه القوى الآن أن تلاعبها بالمرحلة الانتقالية وخروجها على مقتضيات التغيير قد وضعها في مأزق الأزمة الراهنة, وخصوصاً ما تكشفه معطيات هذه الأزمة من الخلل القاتل الناجم عن سوء وعدم استكمال هيكلة الجيش, وما ترتب على إبقاء بعض وحداته على النظام القديم من صورة مركبة من الشبهات المتصلة بتأكيد وجود وحدات مسلحة خارجة عن الأطر العسكرية الرسمية, وتابعة لقيادات عسكرية ومشيخية, فهل نسلّم جميعاً بالتغيير ونتيح للرئيس قيادة عمليته كما ينبغي؟.
albadeel.c@gmail.com